Akan Gefen Tarihi

Taha Husain d. 1392 AH
178

Akan Gefen Tarihi

على هامش السيرة

Nau'ikan

وكانت أمه تجد مثل ما يجد أصحابه من الإشفاق عليه والرثاء له، ومن إنكار هذا التناقض بين جسم مضطرب نشيط ونفس ساكنة هادئة حزينة. ولكنها كانت تعلم من أمر هذه النفس الهادئة الحزينة أكثر مما كان يعلم أصحاب الفتى.

وكانت تتحدث عن حزن الفتى واكتئابه إلى عمه الشيخ إذا خلت إليه. وكان الشيخ يسمع لها ويصغي إليها، ثم ينظر إلى وجهها المشرق الذي يترقرق فيه حزن رقيق، تخفي أصوله في نفسها نظرات طويلة، ثم يقول لها في هدوء متكلف وأناة مصطنعة وصوت يكاد يتفجر فيه الغيظ المكظوم: «مهلا مهلا يا أسماء! فإن الأوان لم يئن بعد.» وكانت أسماء تسمع من الشيخ هذه الجملة التي يكررها كلما تحدثت إليه في أمر الفتى، فلا تزيد على أن تلزم الصمت، وتقطع الحديث، وترسل دموعا هادئة تنحدر على وجهها الجميل، ثم تسرع إلى هذه الدموع فتكفكفها، ثم تنصرف عن الشيخ ساعة، ثم تعود إليه مشرقة الوجه باسمة الثغر، كأنها لم تقل له شيئا ولم تسمع منه شيئا، وكأن دموعها الغزار لم تغسل وجهها الجميل.

وكانت أسماء قد وصلت بابنها الصبي إلى هذه المدينة من مدن الشام منذ أكثر من عشر سنين، تحمله بين ذراعيها، ولا تخلي بينه وبين الحركة الحرة إلا قليلا لكثرة ما خافت عليه، ولكثرة ما تعرضت وتعرض معها له من الهول. فلما انتهت إلى المدينة تلقاها الشيخ فأحسن لقاءها، وسمع منها حديثها فأحس له ألوانا مختلفة من العواطف: أحس الغيظ والحنق، وأحس الثورة والغضب، وأحس الرحمة والإشفاق، وأحس البر والحنان، وقال لامرأة أخيه آخر الأمر: «أقيمي يا أسماء وادعة مطمئنة، فقد بلغت مأمنك وانتهيت إلى دارك، ولك علي ألا تجدي في هذه الديار إلا ما ترضين، وأن أقوم على هذا الصبي كما كان أبوه يريد أن يقوم عليه، لا أسألك في ذلك إلا أمرين: أن تفرغي للصبي حتى يتم رجلا كامل الخلق موفور القوة، ولك بعد ذلك أن تفرغي لنفسك، فتلتمسي الزواج وتستأنفي الحياة، وأن تكتمي على الصبي أمر أبيه فلا تنبئيه منه بشيء حتى أوذنك بأن الأوان قد آن.»

قالت أسماء وقد شاع في صوتها من الأسى ما يذيب القلوب: «وا حسرتاه! وهل أستطيع أن أفرغ لشيء غير هذا الصبي الناشئ! وغير ذكرى ذلك الشيخ الذي مضى ولم يترك مع ابنه إلا لوعة ما أراها تهدأ، وحبا ما أراه ينجلي عن هذا القلب البائس! لن أفكر إلا في هذا الصبي أعده ليكون لي خلفا من أبيه. فأما الزواج فقد قضيت أربي منه. وأما الحياة فقد أخذت منها كل ما أعطتني، فما أطمع منها في شيء، وما أرجو منها خيرا. ولقد ودعت حياة الزواج يوم ودعت أبا كعب، فمضى إلى الموقعة، ومضيت إلى هذا الوجه من أرض الشام. ولقد أردت أن أطيل وداعه، وأن أسترسل معه في بعض الحديث، وأن أعاهده على الوفاء له، وأن أقسم له على أني سأظل له زوجة إن قضى كما كنت له زوجة قبل أن يتعرض للموت. ولكنه لم يرد أن يسمع لي ولا أن يصغي إلي، ولا أن يطيل موقف الوداع، وإنما نظر إلي نظرة فيها الحب والغضب معا، ورفع ابنه فقبله بين عينيه، ثم دفعه إلي في شيء من العنف ثم تحول عني. حتى إذا استقلت الإبل ودفعت في طريقها إلى الشام، تلفت فإذا هو قد استدار وجعل يتبعنا بصره وهو قائم لا يتحرك ولا يظهر على وجهه إلا هذا الغيظ المروع الذي رأيته فأنكرته حين عاد إلي من ناديه آخر النهار. فلما أبى أن يسمع لي ويتلقى قسمي عاهدت نفسي وقد عجزت عن أن أعاهده، وأقسمت لنفسي وقد عجزت عن أن أقسم له. ثم لاقيت في الطريق ما تعلم من خطب، وتعرضت لما تعلم من هول؛ فلم تبق الحوادث مني لحياة الزوجات شيئا، وإنما أبقت مني لحياة الأمهات كل شيء.»

قال الشيخ: «وتكتمين على الصبي أمر أبيه حتى أوذنك بأن الأوان قد آن.» قالت: «ذلك لك، وإن كنت لا أعرف كيف أجد السبيل إلى الكتمان.»

وأنفقت أسماء أعواما وأعواما، تنشئ ابنها وتحدب عليه في ذرا البر العنيف الماكر من شيوخ يهود في الشام. حتى إذا تقدمت السن بالفتى وعرف نفسه ونظر، فلم يجد حوله إلا أمه وعمه سأل عن أبيه، فأنبأته أمه باسمه ومكانته من قومه، وبأنه قد لقي مصرعه في بعض ما يلقى الناس فيه مصارعهم من الحوادث التي تعرض، والخطوب التي تلم هناك في تلك الأرض البعيدة التي هاجر اليهود إليها بحريتهم فيما مضى من سالف الدهر.

وجعل الفتى يسأل أمه ويلح في السؤال يريد أن يعرف عن أبيه أكثر من ذلك فلم يجد منها إلا مداورة والتواء، فلجأ إلى عمه فلم يجد عنده إلا مثل ما وجد عند أمه من المداورة والمراوغة والالتواء. هنالك ارتاب الفتى وأثر الشك في نفسه آثارا عميقة. وهنالك تعقدت الأمور في ضمير الفتى، فأحس الخوف من هذا السر الذي تخفيه عليه أمه ويحجبه عنه عمه، وأحس الكبرياء التي منعته من الإلحاح في السؤال مخافة أن يعلم ما يغض من نفسه أمام نفسه، وأحس الإشفاق على هذه الأم الجميلة البرة الحزينة أن يكون في إلحاحه عليها ما يؤذيها، أو أن يكون في جوابها له ما يؤلمه. فعكف الفتى على نفسه، وأسر الحزن في ضميره، وجاهد الهم ما استطاع إلى جهاده سبيلا، فلم يقهر الهم ولكن الهم لم يقهره. وكانت الحركة الدائمة والنشاط المتصل وسيلته إلى هذا الجهاد، فكان لا يصبح إلا أسرع إلى الخروج من داره، واضطرب فيما يضطرب فيه شباب العرب في هذه المدينة القائمة في طرف من أطراف الشام. صراع وجلاد وخروج إلى الصحراء القريبة للصيد مرة ولمجرد الإيغال في الصحراء مرة أخرى، وحديث إذا شق على الفتى وأترابه ما ينفقون وقتهم فيه من الحركة والاضطراب. ولكنه لم يستطع قط أن يمنح الحياة ابتسامة نقية من الشوائب، كما لم يستطع قط أن يتلقى من الحياة ابتسامة بريئة من العبوس.

فلما كان ذلك اليوم أقبل الفتى على أمه وعمه جذلان فرحا يتألق وجهه بشرا ولا يفارقه مع ذلك حزنه العميق. ولم يكد يراهما حتى قال لهما في صوت متقطع قد امتزج فيه الأمل باليأس: «تهيآ للرحلة، فليست هذه المدينة لكما بدار منذ اليوم.»

فوجمت الأم ولم تحر جوابا، وتماسك الشيخ ونظر إلى ابن أخيه نظرته الطويلة العابسة الماكرة، وقال في هدوء متكلف: «وما ذاك؟» قال الفتى: «ذاك أن جيوش هذه الصابئة من أصحاب محمد قد دنت من أرضنا، وأن نائب قيصر يستعد للقائها، وقد هيأ جيوش الروم وأذن في أهل الشام من العرب بالنفير العام. وما أرى إلا أن هذه المدينة ستكون موضعا للصراع بيننا وبين هذه الصابئة.»

قال الشيخ وهو محتفظ بهدوئه المتكلف: «وما نحن وهذا الصراع يا بني؟ نصارى ومسلمون يقتتلون، سنرتحل وسنخلي بينهم وبين ما يملأ قلوبهم من الحقد والبغض.» قال الفتى: «سترتحلان! أما أنا فمقيم.» قالت أسماء: «أما أنت فمقيم! وما تريد أن تصنع في دار الحرب؟ وكيف تقدر أنا سنرتحل من دونك؟»

Shafi da ba'a sani ba