قالت الصورة: «فقل إني دعوت نفسي إليك، أو إني دفعت نفسي إليك، أو إن مقامك هذا بين هذه الشجرات الخضر، وهذا الجدول النقي، وهذه الطير النائمة، وهذا الضوء الهادئ الذي ينحدر من القمر، قد أعجبني فأقبلت أشاركك في هذه العزلة، وأتحدث إليك في بعض ما يكون فيه الحديث.» قال الشيخ: «ولكن من تكونين؟»
قالت الصورة: أحريص أنت على أن تعرفني؟ فقل إني أنا العزلة التي يفزع إليها المكروب إذا ضاق بالأحياء والأشياء. وقل إني أنا الوحدة التي يفر إليها الإنسان من نفسه وأهله، ومن الأعداء والأصدقاء، ومن الخير والشر. وقل إني أنا الحرية التي يجدها الإنسان الفرد حين يفر من الجماعة إلى حيث يستطيع أن يفكر آمنا ناعم النفس رضي البال. وقل إني أنا العزلة والوحدة والحرية جميعا قد ائتلف منها شخصي، وتكونت منها نفسي. وقل - إن شئت - إني أنا الهجرة التي يفزع إليها الناس حين يخافون على عقائدهم، وحين يضيقون بنفاق المنافقين وكيد الكائدين، وحين يحسون أن لا مقام لهم في هذه الدار أو تلك فيفرون منها إلى هذه الدار أو تلك. أنا الهجرة التي قد وكلت بالأخيار إذا ضاقوا بالأشرار، أواسيهم أثناء المحنة وأسليهم عن الفتنة، وأصحبهم حين يخفون عن أوطانهم إلى أوطان أخرى، فأونسهم في الطريق، وأرد عنهم غوائل السفر، وأتلقاهم في مهاجرهم، فأحبب إليهم أوطانهم الجديدة وأسليهم عن أوطانهم القديمة، وأفتح لهم أبواب الأمل، وأمهد لهم سبل العمل، وأنتهي بهم إلى ما هم أهل له من الفوز. قل إني أنا الهجرة التي تغناها شاعركم القديم حين قال:
وأصرف وجهي عن بلاد غدا بها
لساني معقولا وقلبي مقفلا
وإن صريح الحزم والرأي لامرئ
إذا بلغته الشمس أن يتحولا
قال الشيخ: «لقد أذكرتني بهذين البيتين من شعر أبي تمام يا ابنتي وما كنت لهما ناسيا ولا عنهما غافلا. ولكني لا أريد الهجرة ولا أجد إليها سبيلا لو أردتها.»
قالت: «فإنك لا تريد إلا الهجرة، ولا تجد عن الهجرة منصرفا. ألم تهاجر إلى هذا المكان منذ الليلة؟ ألا تهاجر إلى نفسك بين حين وحين، حين تضييق ببيئتك التي تحيا فيها وتشقى بها؟ فإني أونس وحشتك حين تهاجر إلى نفسك في المدينة، كما أونس وحشتك الآن حين هاجرت إلى هذه الشجرات الخضر، وهذا الجدول الناصع، وهذه الفضة المذابة التي تترقرق بين الأرض والسماء كأنما تحمل إلى نفسك الثائرة رسالة الأمن والطمأنينة والهدوء والصفح عن الآثمين والإعراض عن الجاهلين. استمع لي وافهم عني؛ فكم صحبت من أخيار ضاقوا بالحياة وضاقت الحياة بهم، فآنست وحشتهم، وفرجت كربتهم، ولزمتهم رفيقة بهم عطوفا عليهم حتى أبلغتهم مأمنهم. وإني لأعرف من أخبارهم وآثارهم ما هو خليق - إن قصصت بعضه عليك - أن يسلي عنك الهم، ويسري عنك الحزن، ويعصمك من الشك، ويثبتك على اليقين، ويمضي بك إلى الوجه الذي يسرك الله له، حتى تخرج من هذه الحياة وقد رضيت عن ضميرك ورضي ضميرك عنك مهما يكن رأي الناس فيك.
لقد صحبت فتى من قريش فيما مضى من سالف الدهر ما أنسيت صحبته قط. أردت أن أونسه فكان هو مؤنسا لي. وأردت أن أسلي عنه الهم، فلم أجد في نفسه هما أسليه عنه. إنما أقبل علي محبا لي مشغوفا بي مؤثرا أياي على كل شيء. ولقد أبعدت به السفر، ولقد أطلت عليه الغربة، فما أشفق من سفر غير قاصد، وما ضاق بغربة غير منقضية، وإنما هاجر كلفا بالهجرة، مؤثرا لها على اليسير والعسير من الفتنة.
كانت نفسه حلوة هادئة، فأبت أن تمزج حلاوة الإيمان بمرارة الفتنة، وأن تخلط هدوء اليقين بعنف الجدال فيه. كان من السابقين إلى الإسلام. رأى ابن عمه يدعو فاستجاب له عن حب وصدق ويقين. ومضى على الوفاء لما أقبل عليه من هذا الدين الجديد، يؤثر التقوى الخالصة والإيمان الهادئ المطمئن على كل شيء. فلما اضطرب الأمر من حوله ورأى اضطهاد قريش للمسلمين، ورأى ثبات المسلمين للمحنة وإلحاح قريش عليهم فيها، صبر كما صبروا، واحتمل كما احتملوا، ولقي في ذات الله مثل ما لقوا، حتى إذا أذن الله للمسلمين في أن يفروا بإيمانهم إلى حيث الأمن والهدوء - إن أرادوا - هاجر من مكة تاركا وطنا أحبه وعشيرة آثرها، وحياة نعم بما لقي فيها من ضروب الشدة واللين. هاجر فيمن هاجر من أصحاب ابن عمه إلى أرض بعيدة نائية.
Shafi da ba'a sani ba