قال الشيخ وقد عاد إلى أناته ووقاره: «فإن من الحق عليك يابن أخي أن ترعى ما يرعى قومك من سنة وألا تغري السفهاء منهم بنفسك وبقومك. وقد حدثت أنك لا تكتفي بدار نسطاس ولكنك تألف دارا أخرى ما أحب لك أن تألفها؛ لأن قريشا لا تنظر إلى آلافها إلا شزرا. ومن كان مثلك ومثلي ومثل سادة قريش من أصحاب التجارة كان خليقا أن يقدر رأي الناس فيه وأن يحسب الحساب كله لما يمكن أن يذاع عنه من الأحاديث. فأمر التجارة والمال يقوم على الثقة وحسن الأحدوثة أكثر مما يقوم على المهارة وسعة الحيلة، وإنك لترى أمية وما يصنعون!»
قال الفتى: «بل قل وما يتكلفون.» قال الشيخ: «هو ذاك.» قال الفتى: «وهذه الدار الأخرى التي آلفها وأكثر من التردد عليها هي دار ورقة بن نوفل، أليس كذلك؟» قال الشيخ: «بل يابن أخي، هي دار ورقة بن نوفل الذي انحرف عن قومه وارتحل عنهم مخالقا لهم، ثم عاد إليهم ملحا في الخلاف، يدين بما تدين به الروم، ويؤمن بما يؤمن به النبط، وينكر من أمر آلهتنا ما نعرف، ويعرف من أمر السماء ما ننكر. وقد علمت يابن أخي ما كان من ثورة قريش به ويزيد بن عمرو وأمثالهما.»
قال الفتى: «فإن كنت أحب دار ورقة كما أحب دار نسطاس، وإن كنت أجد عند ورقة من متاع الروح مثل ما أجد عند نسطاس من متاع النفس والجسم!» قال الشيخ: «فإن قريشا لا تحب منك ذلك، وإني أنا لا أحب أن تنكر قريش من أمرك شيئا، وما أحب أن يتحدث الناس في البطحاء والظواهر بأن قد عرض لفتى من فتيان مخزوم مثل ما عرض منذ حين لفتى من فتيان عدي من الانحراف عن الجادة والتمرد عن المألوف من عادات قومه.»
قال الفتى: «فإن مخزوما قد أصهرت إلى عدي
1
وما ينبغي لكم أن تصهروا إلى قوم وترسلوا إليهم كرائمكم ثم ترتفعوا عن مشاركتهم فيما يصيبهم من الأمر.» قال الشيخ: «لقد علمت ما أحببت هذا الصهر ولا رضيت عنه ولا أشرت به ولا انتظرت منه لقريش خيرا؛ فالألفة بين عدي ومخزوم شيء لا يرجى، والخير أن يظل هذان الحيان من قريش على خلافهما القديم لا ليشقى به النساء جين يعيا بالطب له الرجال. ولئن أخطأ أبوك بقبول هذا الصهر فما ينبغي أن تمضي على أثره أو تضيف إلى خطئه خطأ جديدا. وإنك لتعلم أن قريشا لا تكره من أحد شيئا كما تكره الانحراف عما ألفت من عادة ودين، ولا تخاصم أحدا في شيء كما تخاصمه في مالها ودينها. ودين قريش جزء من مالها لأنه، كما علمت، وسيلتها إلى السيادة والسلطان.»
قال الفتى: «فإني لا أكره من قريش شيئا كما أكره منها هذا الرياء: تكبر الآلهة وتعظم أمرها إذا شهد العامة أو حضر أهل الموسم، فإذا خلا الملأ من قريش إلى أنفسهم فأي استخفاف بالآلهة وأي ازدراء لمن يدينون لها بالإكبار والإجلال! إنكم لتطلبون إلينا شيئا عظيما حين تريدوننا على أن نمهر كما تمهرون ونمكر كما تمكرون، ونعلن غير ما نسر ونسر غير ما نعلن، لا لشيء إلا لنثري ونسود. وإنا لنجد في رضا أنفسنا وراحتها واطمئنان ضمائرنا إلى ما نعلن وما نسر نعمة هي آثر عندنا من السيادة والثراء. فامضوا فيما تريدون لأنفسكم، وخلوا بيننا وبين ما نريد لأنفسنا.»
قال الشيخ: «ما أرى إلا أن دار نسطاس قد فتنتك، وأن دار ورقة قد أفسدت عليك أمرك كله يابن أخي، فإنك تتحدث حديثا لا يتحدثه أحد من شيوخ قومك وشبابهم. وإني لأرى لداتك من الفتيان وأسمع منهم وأتحدث إليهم فلا أجد عند أحد منهم مثل ما أجد عندك، وما أعرف أن الناس ينكرون على أحد من أترابك مثل ما ينكرون عليك.»
قال الفتى: «وما تريد أن أصنع؟ هم مفتونون بك وبنظرائك من الملأ، وأنا مفتون بورقة ونسطاس ونظرائهما من الغرباء والمستضعفين.»
قال الشيخ: «أمسك عليك نفسك يابن أخي ولا تظهر قومك من أمرك على مثل ما تظهرني عليه؛ فإن شر هذا الخلاف لا يصيبك وحدك وإنما يصيب مخزوما كلها، ما أظنك قد بلغت من حب نفسك أن تعرض قومك لما لا قبل لهم به.»
Shafi da ba'a sani ba