وكانوا في هذه المرة في مساء يوم من أيام الآحاد، لم يجهدهم العمل، ولم يضنهم الكد، وإنما قضوا يومهم فارغين، قد خلصوا لحياتهم الخاصة، وانتظروا هذه الوليمة التي كانوا يترقبونها منذ أيام، وألموا بكنيستهم المتواضعة فأدوا صلاتهم، واستمعوا لوعظ القسيس. وكان قسيسهم شيخا متهالكا قد تقدمت به السن، وثقلت عليه الحياة، وأدرك عقله شيء يسير من ضعف كان ربما دفعه إلى بعض التخليط، وأغراه إلى أن يتحدث إليهم بغير الصواب. وكانوا على ذلك يحبونه ويكرمونه، ويرعون له طول عهده بهم، واتصال إقامته فيهم، وكثرة ما صنع بهم من معروف، وما أحسن الوساطة بينهم وبين الله. فكانوا إذا سمعوا منه بعض التخليط ابتسموا مشفقين عليه رفيقين به. وربما قسا عليه شبابهم من حين إلى حين، فأظهر شيئا من سخرية، وأعلن شيئا من اعتراض. وكان القسيس يلقى من أهل القرية حبا بحب، ووفاء بوفاء. وما له لا يفعل وشيوخ القرية إخوته الصغار، وشباب القرية أبناؤه الذين شهد مولدهم، وقدس زواجهم، وتلقى أبناءهم على اختلاف أسنانهم؛ منهم من لا يزال في المهد، ومنهم من جعل يدرج! ومنهم من أخذ يختلف إلى الحقول. ولم تكن قسوة الشباب عليه تؤذيه أو تبلغ نفسه الطيبة وقلبه الحليم، وإنما كان يلقاها بكثير من العفو والإسماح. وربما مكر بالشباب مكرا فدفعهم إلى أن يعبثوا به ويقسوا عليه بعض الشيء؛ يرى في ذلك دعابة تسره وتسر من حوله من أبنائه وأحبائه.
فلما أخذ القوم في حديثهم تلك الليلة بعد العشاء، انبرى شاب من شباب القرية كان معروفا بالدعابة وخفة الروح، فقال للقسيس في هزل يشبه الجد: «لقد روعتنا يا أبانا منذ اليوم بما قصصت علينا من حديث الشيطان وما عرضت علينا من صوره الغريبة البشعة! فما قدرت قط أن للشيطان هاتين الأذنين الطويلتين، وهذين القرنين المحددين، وهذه الأرجل الثمان التي قسمت بين ظهره وبطنه، والتي تتيح له أن يسعى مرة ووجهه إلى الأرض وأن يسعى مرة أخرى ووجهه إلى السماء.»
قال فتى آخر من فتيان القرية: «فقد كان ينبغي أن تكون له أرجل ثمان أخرى: أربع منها عن يمين، وأربع منها عن شمال! ليستطيع أن يسعى على أي جنبيه شاء، كما يستطيع أن يسعى على بطنه حينا، وعلى ظهره حينا آخر.»
قال فتى ثالث: «وقد ينبغي أن يتاح للشيطان أن يسعى على قرنيه مرة وعلى ذنبه مرة أخرى.»
قال فتى رابع: «فأنتم تريدون أن يكون الشيطان كله أرجلا إذا! فهلا تركتم من جسمه موضعا للجناحين! فقد ينبغي أن يكون له أجنحة يطير بها في الهواء، لينقل الشر بها في أقصر وقت وأيسره من قطر من أقطار الأرض إلى قطر، ومن جيل من أجيال الناس إلى جيل.»
وتضاحك القوم جميعا، فأغرقوا في الضحك، ولم يكن قسيسهم الشيخ أقلهم ضحكا. ولكن الفتى الأول اتجه إلى أبيه القسيس الشيخ وقال في صوت غليظ وضحك عريض: «أرأيت الشيطان قط يا أبانا؟ وعلى أي شكل من هذه الأشكال رأيته؟»
قال القسيس الشيخ في صوت هادئ نحيف يبطئ به الكبر، ويكاد يهده الضحك هدا: «لم أر الشيطان قط يا بني، وما ينبغي لمثلي أن يراه، وأعوذ بالله لكم من أن نراه. وما حدثتكم من أمره إلا بما قرأت في الكتب، وسمعت من الأساتذة والمعلمين، وسمعت من أحاديث الناس أيضا. ومهما نصور من بشاعة الشيطان وقبح منظره، فلن نبلغ منهما شيئا! فهو أبشع من كل ما نظن، وأقبح من كل ما نصور، لا في شكله وخلقه فحسب، بل في رأيه وعمله أيضا، وفي مشورته وما يوسوس به إلى الناس بنوع خاص.»
وهنا تكلم «باخوم» فخفتت الأصوات، وأنصت الناس. وكان «باخوم» شيخا من شيوخ القرية، قد عرف بطول الصمت خارج الكنيسة، وكثرة الصلاة إذا كان فيها، كما عرف بالوقار والأناة إذا تحرك أو تكلم، وكما عرف بهذه الهيبة التي كانت تفيض على وجهه، وهذه المحبة التي كانت تجذب إليه الناس.
وكان «باخوم» رجلا قد طوف في الأرض أول شبابه فأكثر التطويف، ولم يكن يلم بقريته إلا ليمكث فيها العام أو بعض العام، ثم يرتحل عنها فيغيب عنها الأشهر حينا، والعام حينا آخر. وربما امتدت غيبته فبلغت العامين، ولكنه كان ينتهي دائما بالعودة إلى قريته والإقامة فيها حينا، وكان لا يعود إلا ومعه فضل من مال يبر به خاصته وذوي قرباه، ويحسن به إلى الفقراء والبائسين، وشيء من الطرف النادرة يتحف به الأغنياء وأصحاب اليسار.
وكان قد نشأ عاملا يرافق البنائين حتى تعلم صناعتهم، وأحسن من فنونهم ما يحسن أهل القرى. وكأن ذلك لم يكفه ولم يغنه، فارتحل إلى المدن فجود فنه شيئا، ثم أخذ يتنقل بفنه من مدينة إلى مدينة، ومن إقليم إلى إقليم حتى جاب أرض مصر كلها. وكان كلما أحسن من فنه شيئا طمع في أن يضيف إحسانا إلى إحسان، ويرقى بفنه من طور إلى طور، حتى تسامع الناس به، ودعاه الأغنياء وأصحاب الثراء، في إقليمه وفي غير إقليمه! ليشرف على ما كانوا يريدون أن يشيدوا من الدور والقصور. وكأنه قد عرف ما كان عند المصريين من فن البناء، وحذق من ذلك ما كانوا يحذقون. ثم لم يكفه ما عرف، ولم يرضه ما أتقن، فأبعد في الرحلة، وتجاوز مصر إلى غيرها من البلاد المجاورة. ولكنه استبقى عادته وحفظ لقريته عهدها، فكان يبعد في الرحلة ويطيل الغيبة، حتى يستيئس أهل القرية من عودته، ويظنوا أنه قد هلك في بعض الطريق، أو عدت إليه عاديات الدهر في بعض أقطار الأرض. ولكنهم يرونه ذات يوم وقد أقبل عليهم مع الصباح أو مع المساء، هادئ النفس دائما، وقورا في حركاته وكلامه دائما، طويل الصمت خارج الكنيسة، كثير الصلاة إذا كان فيها، يحمل فضلا من مال يبر به الفقراء والبائسين، وشيئا من الطرف يتحف به الأغنياء والموسرين. وقد كان أول أمره يحب الفن ويكلف بالعمارة والبناء، ولكنه إلحاحه في السفر وتجويبه للآفاق قد أضافا إلى هذا الحب الفني شيئا آخر؛ هو حب الرحلة في نفسها والكلف بزيارة البلاد المختلفة، والإلمام بالأجيال المتباينة من الناس. فكان يرتحل للبناء أول الأمر، ثم أصبح يرتحل لا لشيء إلا لأن نفسه لا تستطيع أن تسلو عن الرحيل. وكان في أول أمره ينتهز الفرص ويتلمس العلل والمعاذير لما كان يزمع من رحلة، أو يعتزم من سفر؛ فكان يصحب القوافل إلى هذا الوجه أو ذاك من وجوه الأرض. ولكنه انتهى آخر الأمر إلى أن يستقل بتدبير أمره ويهيئ أسفاره، لا يلتمس لذلك علة، ولا ينتحل له معذرة، ولا يصحب هذه القافلة أو تلك، وإنما يعود من رحلة إلى بلد، فلا يكاد يستقر في قريته حتى ينبئ الناس بأنه مرتحل إلى بلد آخر، يسميه لهم تسمية العالم به، الملم من أمره بما لا يعرفون.
Shafi da ba'a sani ba