ولم يكن أمر خديجة بأيسر من أمر عبد المطلب، ولم يكن خوفها بأهون من خوفه، ولم يكن إشفاقها بأقل من إشفاقه. ولكن خواطرها كانت من طراز آخر، ومن طبيعة أخرى! فهي لم تكن مؤتمنة على الفتى، ولا كافلة له، ولا موكلة بحمايته ولا حياطته والقيام دونه. ولكنها كانت شيئا آخر لعله أقوى من هذا كله، كانت تحب هذا الفتى. وحسبك بالحب مثيرا للخوف والقلق، وباعثا للجزع والفزع، وحائلا بين القلوب وبين ما تحتاج إليه من الهدوء والاطمئنان.
لقد أحبت خديجة هذا الفتى منذ كان صبيا، وجعلت ترعاه من بعيد، وترقب من أمره ما تستطيع أن ترقبه ، وتتبع نموه واكتماله. وكلما نما الفتى نما حبها له وكلفها به. أفحين بلغ الفتى أشده وأصبح خليقا أن يحقق أملها فيه، يخطر لها هذا الخاطر الغريب، فإذا هي تدفعه إلى الرحلة، وتقذف به إلى أرض الروم؟! ومن الحق أنه لم يكن لها زوجا، ولكن كانت تتمناه لنفسها زوجا. وربما كان الخوف على الأماني أشد على النفس وأوقع في القلب من الخوف على الحقائق الواقعة والشيء الذي ظفرت به بعد أن طال تمنيك له وألحت رغبتك فيه. وكانت خديجة تذكر آمنة، وتذكر نفسها، فترى أن آمنة لم تدفع زوجها إلى الرحلة، وإنما أذعنت في ذلك لقوانين الحياة التي تقضي على فتيان قريش بالاضطراب في الأرض والإبعاد في الأسفار. ولو قد خيرت آمنة لاستبقت زوجها. ولو قد أتيح لقلبها أن ينطق لألح على زوجها في البقاء.
فأما هي فلم تكره على فراق الفتى، وإنما سعت إليه ورغبت فيه، وأغرت به الفتى إغراء، ودفعته إليه دفعا، ودست فيه الرسل إلى عمه الشيخ، وأضعفت أجره أضعافا. أمحبة هي لهذا الفتى أم مبغضة له؟ أراغبة هي عن هذا الفتى أم راغبة فيه؟ أحريصة هي على جوار هذا الفتى أم على فراقه؟ إن أمرها لعجب مهما تقلبه على وجوهه. ولكن ألمها شديد، وحزنها موجع، وقلقها مضن. وقد تذكر أنها لم ترسله وحده إلى الشام، ولم تعرضه وحده للأخطار، وإنما أرسلت معه غلامها القوي الفتي الأمين الناصح، وهو خليق أن يحوطه ويرعاه، وأن يلقى الموت في سبيل حياطته ورعايته. ولكن غوائل الدهر وعوادي الأيام جائرة غاشمة، وهي أقوى من غلامها ميسرة مهما يكن قويا، وأجرأ منه مهما يكن جريئا، وأمضى إلى المكر والكيد منه إلى الحياطة والحماية والنصح.
وكذلك جعل هذا الشخصان يعيشان مع هذا الخوف الذي يفسد عليهما اليقظة والنوم، دون أن يستطيع أحدهما أن يفضي إلى صاحبه بما يجد أو ببعض ما يجد. فلا غرابة أن يطمئن قلباهما حين سمعا صيحة البشير بمقدم العير. ولا غرابة أن يحس كل منهما كأن نفسه تتحرق شوقا إلى لقاء هذا الفتى. فأما أبو طالب فقد هم أن يخرج من مكة مع الضحى للقاء ابن أخيه، ولكن إخوته وبنيه صدوه عن ذلك، ولاموه فيه، وخوفوه حر الشمس وشدة الهاجرة، وخوفوه قبل كل شيء حديث قريش هذه التي استبشرت بمقدم العير، ولكنها استقرت في أماكنها، لم تهم بالخروج للقاء الأبناء والإخوان قبل إبان الخروج.
وأما خديجة فما كان لها أن تخرج للقاء الفتى، ولا أن تفكر في الخروج للقائه؛ فليس هذا من شأن النساء، ولا هو مما يليق بحرائر قريش. ولكن نساءها أنكرن منها اضطرابا منذ سمعت صوت البشير، وتحدثن فيما بينهن بكثرة ترددها على النافذة ونظرها إلى الطريق. وكان بعضهن يتحدث في ذلك إلى بعض حين دعتهن خديجة قائلة: «أقبلن فانظرن؛ فإني أرى شيئا لم ير الناس مثله قط.» وقد أقبلن، فنظرن، فرأين شيئا لم ير الناس مثله قط: رأين فتى مشرق الوجه، واضح الجبين، مهيب الطلعة، يسعى به بعيره تحت هذه الهاجرة المحرقة، ويخوض به لهيب هذه النار المضطرمة، وإن عن يمينه وشماله لشخصين تحسهما العين ولا تحققهما، تراهما من غير شك ولكنها لا تميزهما. ترى أنهما لا يمشيان على الأرض، وإنما يسعيان في الهواء سعيا رفيقا، وهما يظللان هذا الفتى ذا الوجه المشرق، والطلعة المهيبة، ويحميان حر وجهه الجميل من هذه الشمس المحرقة.
ينظرن، فيرين، ويقلن: «ما ينبغي أن يكون هذا رجلا من الناس.»
ومتى رأى الناس رجلا يظلله شخصان لا يمشيان على الأرض، وإنما يسعيان في الهواء؟!
3
وأقبل ميسرة على خديجة حين أدبر النهار. فلما رأته تمالكت في شيء من الجهد غير قليل حتى كبحت عواطفها الثائرة، وضبطت خواطرها الجامحة، وردت نفسها ووجهها من الهدوء والسكون إلى ما تعودت أن تلقى به خادمها الوفي ومولاها الأمين. ثم سألته عن تجارتها كما تعودت أن تسأله كلما آب إليها من رحلة الشام أو من رحلة اليمن. ولكنه كان في هذه المرة يقص عليها أنباء الرحلة في شيء من الاضطراب لم تعهده، ويعرض عليها أمر البيع والشراء في شيء من الذهول لم تألفه. وكثيرا ما تلبث في حديثه ليستحضر رقما غاب عنه، أو يرد خاطرا ند، أو يدعو فكرة شردت. وكانت خديجة تسمع له، معنية بما ترى من ذهوله وشرود خواطره، أكثر من عنايتها بما كان يعرض عليها من الأرقام، ويقص عليها من أنباء البيع والشراء.
وقد ترددت خديجة فطال ترددها، حين فرغ مولاها من حديث التجارة. ترددت في أن تسأله عن غير هذا الحديث من أمر هذه الرحلة. وليس من شك في أن العبد كان مترددا مثلها، مطيلا للتردد في أن يقص عليها شيئا آخر من أنباء هذه الرحلة لا صلة بينه وبين البيع والشراء. وآية ذلك أن خديجة أطرقت فأطالت الإطراق، حتى نسيت العبد وحديثه، ومضت تفكر في شيء آخر غير العبد والحديث. فلما رفعت رأسها بعد ساعة رأته قائما أمامها لم يزل عن مكانه، ولم يتحول عن موضعه، وقد أرسل عينه أمامه في هذه الغرفة المتوسطة بين السعة والضيق. فعينه حائرة تنظر ولا ترى، وكأنها تبحث عن شيء لا تحققه لأنها لا تعرف ما هو. فلما رأته أمامها على هذه الحال قالت في شيء من الدهش: «ما زلت قائما أمامي؟! أتريد أن تحدثني بشيء؟ أفاتك من أمر التجارة شيء لم تنبئني به ولم تقصصه علي؟»
Shafi da ba'a sani ba