كان ذلك في تلك البلدة بفلسطين وقد بدا الحي متجليا ببهجة الأعراس وبهائها لزواج ذلك الوجيه السري. ونصب صوان عظيم على سطح الدار الواسعة ليقام فيه مهرجان الفرح كل ليلة. فما يخيم الظلام إلا وتعزف الآلات الشرقية تحت الخيمة الوضاءة بتألق الأنوار ومعالم الزينات، الغاصة بوجوه القوم وأعيانهم من تلك البلدة وضواحيها.
إذ ذاك يهرع أهل الحي إلى الشرفات والنوافذ وسطوح المنازل يتسمعون إلى آهات الطرب الشائعة في الفضاء حتى لتتهادى أصداؤها نحو ما جاور من جبال الجليل. والأطفال مغتبطون بأن يحتضنهم صدر دافئ ويحميهم من أهوال الظلام، فتتنبه منهم النفوس لتفهم أعجوبة الألحان.
كنت على ذلك في ليلة فإذا بصوت ينشد على نقرة العود:
كحل بعينيك أم صبغ من الرحمن
جفن من السحر أم سحر من الأجفان
خال بخديك أم صنع من الديان
توهت فكر الأنام في الجفن والخالات
1
تبارك الله ما أحلاك من إنسان
سمعت وأصغيت ليس بنفسي كما كانت صغيرة وقتئذ بل بكل قواي الكامنة التي سينميها المستقبل وبكل ما في الأيام التي عشتها وسأعيشها من أمل ويأس وسعادة وشقاء. ولعلي استشعرت ببعض ما سأفهمه بعدئذ من نجوى الموسيقى الشرقية ... تقول إن الإنسان يجهل كيف ولماذا ولد، ولكنه يعلم أنه يحتاج إلى السعادة التي لم يفز بعد منها سوى بفتيت موهوم. تقول للطفل والشاب أنهما أكبر سنا مما يظنان، وتقول للقوي الظافر أنه ضعيف مدحور، وتقول لكل أحد إن حياته كانت إلى هذه الساعة خالية سخيفة قحطاء. تقول له إن في الدنيا أمورا لم يختبرها وإن جهله لها فقر وضنك وذل وعبودية وموت سبق الموت. تقول إن الاجتهاد والجهاد عقيم النتائج؛ لأن العمر قصير سريع العطب، وإن كل لحظة يجب أن «تعاش» بأكملها ليستخرج منها أقصى ما تكن. تقول إن القلب روي بالعبرات ينتظر اليد القادرة تضرب عليه ليتفجر كصخرة موسى ... وإذ تنطلق الأصوات سابحة كالأجنحة في فردوس من الألحان، ثم تصبح متفجعة منتحبة ، ثائرة، عاصفة تلج وتتمادى يخيل أن الفزع قد جوف تحتها هاوية تترامى فيها الأصداء المرتعشة. فتعكف النفس على حاجتها ووحدتها وحيرتها بين هذه الهاوية وذلك الفردوس، وتطلب التوازن والراحة في سحر الحب وذوب الحنان ... ولكن العمر قصير سريع العطب، وكل ما فيه موسوم بوسمه ... ولكن الحياة مراوغة في استقامتها، شحيحة في كرمها، وكل ما فيها كريم شحيح مراوغ مستقيم ...
Shafi da ba'a sani ba