أوصانا بالنساء رفقا لأنهن ضعيفات، ثم إنك أموية من لحمنا ودمنا، فارفقي بنفسك وارجعي عن غيك وامكثي عندنا في أمن وأقلعي عما أنت فيه.»
فقالت: «لا تستضعفوني، ولا تأملوا رجوعي، ولا تحسبوني أموية ولا هاشمية، فافعلوا ما تشاءون، وقد قلت لكم إني لا أهاب الموت.»
فتقدم مروان إلى معاوية وهمس في أذنه قائلا: «أرى الكف عن جدالها، فاتركوا أمر إقناعها إلي لأني أعرفها من قبل ذهابها إلى المدينة فقد كانت مقيمة بدمشق وأعرف أبويها، وأنا أضمن إقناعها طوعا أو كرها إذ لا يليق بنا استبقاؤها على هذا العناد، فإما أن ترجع عن غيها أو نقتلها والقتل أمر مستدرك فأرى أن نقنعها بالحسنى.» ثم التفت إلى عمرو وقال بحيث يسمعه الاثنان ولا تسمعه أسماء: «ولا يخفى عليكما أننا إذا أخذناها في حزبنا فإنها تطلعنا على كل دخائل علي ورجاله، لأنها عالمة بكل أسرارهم. فاتركا هذا الأمر إلي.» ثم تنحى جانبا وأسماء خائفة مما بدا منه. فقال معاوية: «خذوها الآن إلى منزل مروان وسننظر في أمرها.»
فقطعت الحديث قائلة: «لعل منزله السجن.» قال: «كلا».
قالت: «بل خذوني إلى السجن حيث كنت في هذا الصباح.»
فخاف مروان إذا أصروا على إرسالها معه أن تصرح بشيء ضده فقال: «خذوها إلى السجن.» واعتزم أن يكلمها هناك. •••
أشار معاوية إلى الحراس فساروا وأسماء معهم غير هيابة ولا وجلة. وأما مروان فإنه أسر إلى كبير الحراس أن يجعلها في غرفة من غرف السجن وحدها، وأن يضيقوا عليها لعلها تشعر بحاجة إلى النجدة. ولم يدركوا السجن إلا بعد الغروب فدخلوا بها من باب كبير إلى دار رحبة اتصلوا منها بممر مظلم، انتهوا منه إلى بضع درجات نزلوا عليها إلى دار صغيرة تستطرق إلى غرف عديدة دخلوا في إحداها، واتصلوا من هذه بحجرة أخرى واطئة السقف مظلمة تتصاعد منها رائحة الرطوبة والعفونة وقد نبتت الطحالب على جدرانها وتحلب الماء عنها، فأقعدوها على حصير بال ورجعوا وظل السجان وحده، فلما خلا المكان إلا منهما نظر إليها وكأنه أشفق على شبابها وتوسم فيها مهابة ووقارا، ولكنه لم يخاطبها فتركها على ذلك الحصير وعاد وهو يرجو أن تخاطبه هي وتلتمس نجدته متى أحست بالوحدة أو شعرت بالجوع والخوف.
أما هي فلما رأت نفسها في تلك الحجرة وقد خلا المكان من الناس واستولى السكوت على تلك الجدران العفنة، لبثت تفكر في حالها وما صدر منها في حضرة معاوية من الأقوال مخافة أن تكون قد فاهت بما يدل على عجز أو خوف، فرأت أنها أدت الأمانة حق أدائها، ولكنها مع ذلك أسفت لأنها لم يتح لها إتمام قولها.
وقضت ساعات وهي جالسة لا تبالي الظلمة ولا الجوع ولم يزرها النوم لعظم اضطرابها، ثم انتبهت إلى ما هي فيه من الخطر إن لم يكن من معاوية ورجاله فمن مروان وآماله، وأيقنت أنه آت إليها تلك الليلة طمعا في رضائها عنه، والموت عندها خير من إجابة طلبه. فالتفتت إلى ما حولها وهي لا تكاد ترى جدران الغرفة لشدة الظلام، فأنصتت لعلها تسمع مشيا أو كلاما فإذا كل شيء هادئ ساكن لا يكدر سكونه إلا طنين البعوض حول وجهها ونقيق الضفادع نقيقا ضعيفا، يدل من اتجاهه على أن السجن قائم على ضفة نهر بردى الذي يتشعب في دمشق فيسقي أهلها بأنابيب من الحجارة أو الخزف متفرقة في كل منازلها، فاستأنست بذلك النقيق ولكنها استوحشت من الظلمة الدامسة مخافة أن تلسعها عقرب أو يلدغها ثعبان على غرة.
وبينما هي تفكر في حالها وقد شغلتها الوحشة عن التفكير في الخطر المحدق بها، إذ سمعت خطوات بطيئة تدل على تلصص صاحبها في مشيته، فجمد الدم في عروقها وخافت أن يكون ذلك القادم مروان، فأشاحت بوجهها نحو الخطى وقلبها يخفق حتى كادت تعد دقاته. وإذا بذلك الصوت يقترب نحوها فأجفلت ونهضت وتهيأت للدفاع إذا مست الحاجة، ولبثت تنتظر ما يكون. فإذا بالخطوات تبتعد وتضعف حتى لم تعد تسمعها، فعلمت أن أحدا كان قادما نحوها ثم رجع، فازدادت قلقا وظلت واقفة ترتعد لعظم التأثر، وودت لو أن ذلك القادم وصل إليها لتعلم من هو وما غرضه فإن رجوعه زاد بلبالها. وصممت أن تتفانى في سبيل الدفاع وأن تصرح لمروان، إذا كان هو القادم، بما في ضميرها ولو أدى ذلك إلى قتلها.
Shafi da ba'a sani ba