قالت أم المؤمنين : «لقد قضي الأمر ولم يعد الرجوع مستطاعا، فلا تلتمسي ذلك مني.» قالت ذلك وفي لهجتها وملامحها ما يزجر أسماء عن الكلام فصمتت، وعادت عائشة إلى استنهاض القبائل حتى أصبح كل من بقي من رجالها يدافع عن جملها.
وهمت أسماء بالنزول من الهودج ولكنها لم تجسر تهيبا من عائشة، ثم سمعت صوت علي يقول: «اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرقوا.» ولم يكد يتم أمره حتى أحست أسماء بسقوط الجمل وهو يهدر من الألم، فعلمت أنهم عقروه فهمت بالخروج من الهودج، ولكنها أطلت قبل ذلك فرأت كل من حوله من الرجال تفرقوا وعليا يقول لرجاله: «أرسلوا من ينادي في الناس ألا يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يدخلوا الدور.» ثم قال: «احملوا هذا الهودج من بين القتلى»، فحملوه وهي ما زالت فيه مع أم المؤمنين وهذه غافلة عنها لعظم ما ألم بها، وكانت أسماء تنظر إليها وهي متهيبة خشية أن تنتهرها وربما لا تستطيع جوابا. ثم سمعت عليا يقول: «يا محمد يا ابن أبي بكر، اضرب على أختك قبة، وانظر هل وصل إليها شيء من جراحة.»
فلما سمعت ذكر محمد وما أمره به علي، لبثت تنتظر أن تراه مطلا من الهودج وقلبها يخفق، أما هو فلما أدخل رأسه في الهودج ورأى أسماء مع أخته ذهل، ولكنه تجلد ولم يكد يتكلم حتى سمع أخته تقول: «من أنت؟» قال: «أخوك».
قالت: «الحمد لله الذي عافاك!»
وأشار محمد إلى أسماء أن تخرج، فخرجت ونظرت إلى ما حولها فرأت الأرض قد خلت من الناس غير من قتل أو جرح جرحا بليغا فلا يستطيع المسير، وسمعت أنين الجرحى ورأت الدم جاريا قنوات، والخيل والنوق سارحة بعضها يعرج وبعضها يهدر من الجراح، ورأت في بعض تلك الدواب سهاما لا تزال مغروسة في رقابها أو أعجازها. وكان المنظر رهيبا محزنا مؤثرا. وفيما هي تنظر في ذلك إذ رأت عليا دنا من هودج أم المؤمنين وقال: «كيف أنت يا أماه؟»
قالت: «بخير.»
قال: «يغفر الله لك!» قالت: «ولك!»
ثم أمر أخاها أن يدخل بها البصرة لتستريح.
وفيما هو يتكلم رأى أسماء واقفة فعرفها، فلما رأته ينظر إليها همت بيده فقبلتها وقد علتها البغتة واحمرت وجنتاها خجلا، فقال: «أين كنت يا أسماء؟»
ثم سمع صوت أم المؤمنين تقول من داخل الهودج: «أكرموا هذه الفتاة، فوالله إني ما رأيت أكثر غيرة منها على الإسلام ولا أصدق لهجة في الدفاع عن الحق! وهي إنما خاطرت بحياتها وأتتني تحت النبال المتساقطة تلتمس الكف عن القتال.»
Shafi da ba'a sani ba