110

Budurwar Quraysh

عذراء قريش

Nau'ikan

وكان مسعود قلقا لمسيرهما في هذا الظلام وخاف أن يعترضهما وحش أو يهويا في هوة، وقد عجب لشجاعة أسماء وتحملها مشقة السفر. على أنه ما عتم أن سمع طنين سهم في الجو مر أمام عينيه فجفل وصاح: «من ذا هناك؟!» ولم يتم كلامه حتى سمع صوت أسماء تقول: «آه! قتلتني قتلك الله!» فعلم أن السهم أصابها فتحول إليها وقال: «ما بالك يا سيدتي؟! ما الذي أصابك؟!»

قالت: «أصابني سهم في جنبي وأظنه قاتلي!» فترجل وأناخ جملها فإذا هي تسند جنبها بيدها والسهم ما زال مغروسا فيه فنزعه بخفة، فصاحت صيحة دلت على شدة تألمها، فتحير في أمره وخاف أن تموت أسماء بين يديه في ذلك القفر المظلم، فوضع يده على جرحها وضغطه بكفه وهو يرتعش خوفا، ثم سألها عن حالها فقالت: «إني مقتولة لا محالة!» فلم ير مسعود خيرا من أن يحملها على جمله ويسرع إلى ذلك الدير، فأردفها وساق جمله وقاد جملها وراءه وأسرع إلى الدير، ولما وصله وجده مقفلا وسوره عاليا لا يمكن اجتيازه، ثم تذكر أن القوم يعلقون على الأديار أجراسا يدقها من يجيء طارقا، وبحث عن حبل الجرس حتى وجده فدق الجرس ولكن لم يجبه أحد، فكرر الدق فسمع صوتا جهوريا يقول: «من الطارق؟» فأجاب مسعود قائلا: «افتح ناشدتك الله وأسرع إلى إغاثتنا!»

فقال: «من أنت؟» قال: «إننا غرباء في ضنك شديد، افتح رعاك الله!» قال ذلك وصبر فلم يعد يسمع صوتا، ونظر إلى أسماء وهي مطروحة عند الباب تئن أنينا عميقا، فأمسكها بيدها ويده ترتجف خوفا عليها فرآها باردة، فجس جرحها فغاصت أنامله في الدم وكان قد تخثر وملأ ثوبها، فحاول أن يجلسها ليتحقق حالها فإذا هي تشخر وقد ارتخت مفاصلها فزاد اضطرابه وهم بأن يصيح ببواب الدير، فرأى رأسا عاريا قد وخطه الشيب قد أطل من الكوة والمصباح في يده ينعكس نوره على لحيته البيضاء ويقول: «اصدقنا أيها الطارق من أنت؟»

فصاح مسعود قائلا: «إننا غرباء ومعي مريض يشرف على الموت، أنجدنا جزاك الله خيرا!»

ولم يتم مسعود كلامه حتى سمع صوت مزلاج الباب كأنه شد بحبل، فانفتحت خوخة صغيرة في وسط الباب المصفح بالحديد، فرأى مسعود أنه لا يستطيع الدخول من الخوخة وأسماء على تلك الحال، فسأل الراهب أن يفتح الباب كله وأشار إلى أسماء وهي بين يديه. فأسرع الراهب خفيفا برغم شيخوخته وجر عضادة ضخمة من خشب كان الباب موصدا بها ففتحه، وساعد مسعودا في نقل أسماء إلى أقرب غرفة هناك وأجلساها على الفراش، وخف الراهب إلى رئيس الدير ليخبره الخبر. وما لبثوا حتى جاء الرئيس وهو شيخ هرم قد رق بدنه وتجعد جلده واشتعل رأسه شيبا، وعيناه تشعان قوة وصحة وقامته مستوية تدل على نشاط وهمة، فتقدم إلى الفتاة وهي ملقاة على الفراش وسأل مسعودا عما بها فقص عليه الخبر. فأدارها على جنبها الصحيح وأخذ في كشف الجرح، فحول مسعود وجهه عنها حياء واحتشاما، واشتغل الرئيس وراهبه بغسل الجرح وتضميده، وأمر بلبن فغسله به، ثم صب عليه ماء مقدسا يحتفظون به لمثل هذه الحال وربطه، وأمر بملاءة من نسيج الصوف فغطاها بها لتدفئتها، ورش وجهها بالماء المقدس ودهنه بزيت من مصباح الدير المضيء أمام صورة المسيح وهو يدعو الله أن يقرب الشفاء. وأفاقت أسماء لحظة ولكنها لم تقل شيئا ثم عادت إلى الأنين، وكان رئيس الدير وهو يغسل وجهها يتفرس في ملامحها كأنه تذكر شخصا يشبهها. وأخذ يعتذر لمسعود من الإبطاء في فتح الباب لتخوفهم من الطارقين الذين كثروا يومئذ على أثر قدوم أهل مكة إلى البصرة، ووقوع بعض الوقائع الحربية. فلما فرغ من تضميد الجرح تحول إلى مسعود فسأله: «من الفتاة؟»

قال: «إنها فتاة لبعض كبار الصحابة.» ولم يزد.

فأعاد الرئيس نظره إليها وأدنى المصباح من وجهها وكان قد امتقع ونحل وهي مغمضة العينين كأنها في سبات، وقال: «فهي إذن مسلمة؟» قال: «نعم».

فلمح الرئيس في صدرها حجابا اعتاد النصارى جعله على صدورهم، وكان زندها مكشوفا فرأى عليه رسم الصليب فالتفت إلى مسعود وقال: «ولكنني أرى عليها بعض شارات النصرانية!»

فضجر مسعود من تدقيقه وهو لا يهمه ساعتئذ إلا شفاؤها فقال: «لا أدري يا سيدي سوى أنها مسلمة، فلعل لتلك الإشارة سببا لا أعلمه.»

فسكت الرئيس وجلس على مقعد بالقرب من فراش المريضة، وهو تارة ينظر إلى وجهها وطورا يطرق متأملا كأنه يبحث في ذاكرته عن شخص يشبهها.

Shafi da ba'a sani ba