لم يمض الكثير حتى كسب يوسف ثقة أهل القرية، فهو يكدح طوال النهار بهمة وإخلاص في أرض الشيخ سليم، لا يتدخل فيما لا يعنيه، يغض بصره، ويعف لسانه، ولا يتسكع في طريق أو يرتاد المقهى، ويتجنب صحبة الشباب الذين هم في مثل عمره؛ صالحهم وطالحهم على السواء. وكما أجمع أهل القرية على خصاله النبيلة، فقد أدهشهم جميعا أن يوسف يرافق الشيخ سليم أينما ذهب إلا إلى المسجد! كيف يسكت الشيخ عن هذا السلوك وهو الإمام ويوسف هو قريبه ورفيقه؟ كان يصعب عليهم أن يتصوروا أن يكون الرجل على خلق دون أن يكون متدينا، فما بالك ويوسف لا يؤدي فرض الصلاة. تطوع بعض المتحذلقين بتفسير الظاهرة العجيبة، قالوا إن يوسف من المتشددين دينيا، وإن هؤلاء - وفق فتواهم - لا يجوز أن يصلوا خلف إمام يخالفهم في المذهب. وكان التفسير مرضيا مريحا، ومنح يوسف توقير الجميع واحترامهم، فتقدموا إليه ينشدون النصيحة والفتوى، فامتنع قائلا إن الشيخ لم يأذن له بعد، فتأكدت قناعتهم بأن الشيخ يعده لخلافته.
شاع بين الناس أن يوسف يعتزم الزواج من أرملة محمد المهدي، غالبية الناس استهجنوا الأمر؛ فيوسف رغم خصاله الطيبة وافد غريب، ولم تشفع محبتهم له لقبول عضويته الكاملة في القرية. في الآونة الأخيرة كان الشيخ سليم يتردد على منزل عائلة الأرملة الشابة ليتوسط في الخلاف الذي نشب بينها وبين أشقاء محمد المهدي حول توزيع الميراث، وعزز هذا قناعة الناس بصدق إشاعة لا يعلم أحد من الذي أطلقها، أما الشيخ سليم ويوسف فلم يرد بخاطرهما قط شيء مما أشيع.
الغيرة والحقد دفعا واحدا من الناس أو أكثر للنكاية في يوسف والتخلص منه نهائيا، فوشوا به لجهات الأمن زاعمين بأنه إرهابي هارب لجأ إلى بيت الشيخ سليم فآواه عنده، وكانت التهمة بالطبع جديرة بأن تؤخذ بعين الاعتبار.
اقتاد رجال الشرطة الشيخ سليم ويوسف إلى مديرية الأمن، وكان خميس الأعرج وحده هو من حاول اللحاق بهما. حاول خميس دخول مبنى المديرية فتلقى نصيبه كاملا من الركل والسباب، لم يرفق به أحد لعاهته أو لمظهره البائس، فجلس على الطوار المقابل للمديرية يندب حظه ويئن مما أصابه، وتركه الجنود على مضض.
ظل الشيخ سليم واقفا أمام مكتب ضابط الأمن، أما الضابط فقد أدار له ظهره ووضع ساقا فوق أخرى وظل يحتسي فنجان قهوته قطرة تلو قطرة، قال: ما زلت تصر على أنك لست إرهابيا، لا بأس، فلدينا من الوسائل ما يجعلك تعترف.
رد الشيخ سليم: يا حضرة الضابط، هل بلغكم عني من قبل ما يجعلكم تسيئون الظن بي؟ كل ما في الأمر أن إنسانا ضعيفا استجار بي فأجرته، وهكذا يحضنا ديننا، لقد أنقذت إنسانا من القتل ومنعت آخر من ارتكاب جريمة.
أدار الضابط كرسيه وحملق في الشيخ غاضبا. - هل يحض الدين على نصرة الإرهابيين؟! - وهل يعد الشخص إرهابيا في نظر القانون لمجرد أنه يجمع التبرعات لبناء كنيسة! - بناء كن... كنيسة! - نعم هذا كل ما فعله. لقد أحرق المتطرفون من المسلمين منزله ونكلوا بأهله وتوعدوه بالقتل. أنتم تعلمون بالتأكيد تفاصيل ما حدث في تلك الليلة.
شرد الضابط للحظات، ثم سأل: ما اسم يوسف بالكامل؟ - يوسف دانيال مسيحة. إن له بيتا وأرضا وأهلا، وكل قريته تعرفه.
رغم أن كل الدلائل كانت واضحة دامغة بما يكفي لبراءة الشيخ سليم ويوسف من التهمة التي حاول البعض إلصاقها بهما، فقد ظلا قيد التحفظ لثلاثة أيام داخل مديرية الأمن، وظل خميس يأتي كل صباح فيلتزم الجلوس على الطوار المقابل لمبنى المديرية من الصباح الباكر وحتى الغروب. أخيرا أطلق سراحهما، فخرج الشيخ سليم يستند إلى ذراع يوسف وقد أحنى ظهره التعب، أبصرهما خميس الأعرج فانفرجت أساريره وعبر الطريق مسرعا نحوهما. - ظننت أنني سوف أبقى في انتظاركما إلى يوم يبعثون، وخشيت على ساندويتشات الفول أن تفسد، فأكلت نصفها.
على مقهى صغير في ميدان المحطة جلس الثلاثة حول مائدة واحدة، صامتين تماما، ينظر كل منهم إلى ناحية، يتقاسمون ما تبقى من الطعام الذي أحضره خميس، ويرتشفون الشاي على مهل.
Shafi da ba'a sani ba