قبل بزوغ الفجر كانت صيحات الباعة الجائلين تطغى على كل صوت، حتى بائعو الترمس والفول السوداني وجدوا زبائنهم، ولا أدري كيف جاءوا ببضاعتهم ، وكيف أحلوا لأنفسهم في هذا الموقف العصيب أن يضاعفوا الأسعار؟ ومن أين أتت كل تلك النقود التي تنفق بسخاء على طعام أو شراب لا يسمن ولا يروي ولا يغني من جوع أو عطش؟ وكيف تسنى للأطفال أن يطلبوا الحلوى؟
تحسست محفظة النقود في جيبي كي نشارك الآخرين مأدبتهم، واكتشفت أنها قد سرقت. ويبدو أن جماعة ممن يجلسون إلى جوارنا قد فطنت للأمر، فمد أحدهم يده لي ببعض الطعام، شكرته ممتنا وتمعنت في وجهه، كان هو بائع الفاكهة الذي وبخني عصر الأمس. هدأ الميدان؛ فالكل على ما يبدو منشغل بمعدته، فلا تكاد تسمع سوى نداءات الباعة.
بدأ ضوء النهار ينساب على رءوس الناس كالنسمة الندية، فهدأ روعهم، واستحالت الكتلة السوداء التي تخلو من الملامح إلى بستان يزهر بألف لون. لملم البعض حاجاتهم البسيطة التي جلبوها معهم واتخذوا طريق العودة إلى منازلهم، وقد أسلموا أمرهم لله أو بعث فيهم الأمل في النجاة. ربما لم يكن الأمر ليروق للمسنين والعجائز واللصوص والشحاذين والباعة وبعض المشايخ، فاليوم كان يومهم، فأخذوا يستحثون الكفرة على العودة إلى سكينة الإيمان والبقاء في أماكنهم حتى الموت.
سرت همهمات سريعة نشطة، وفجأة اشتعل الميدان بصيحات الفرح وتعالت التكبيرات من هنا وهناك، نهض كل الجلوس، ثم رقص البعض وانطلقت الزغاريد في أرجاء المكان، وسجد الكثيرون لله شكرا، وكأن الميدان قد تحول إلى ملعب كرة تتعالى فيه هتافات الجمهور المتعصب معلنة إحراز هدف الفوز. أخيرا التقطت الهواتف المحمولة بشائر النجاة، لقد اصطدم الكويكب المرعب بنيزك ضخم، فانحرف عن مساره وابتعد عن الأرض.
في المدافن، ودعت العزيز مصطفى وبكيت لموته كما لم أبك قط، لقد نجونا وذهب هو. بقت ليلى وأطفالها معنا بالمنزل، وطلب علي أن يمكث معنا هو وأسرته لبعض الوقت، فالخوف ما زال يسكن قلبه.
بعد أن أديت صلاة العصر في اليوم التالي، توجهت لبائع الفاكهة مستبشرا هذه المرة، تكرر ما حدث بالأمس، فما هي إلا دقائق حتى انهالت على رأسي الشتائم وأمسك الرجل بطوق جلبابي، وأيضا لم يتقدم أحد لنجدتي. (تمت)
Shafi da ba'a sani ba