ففي غزوة تبوك - كما قلنا في «عبقرية محمد»:
عاد الجيش الإسلامي أدراجه بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد سرى إلى النبي نبأ أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية، فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره.
أو كما قلنا في «عبقرية عمر»:
إن دولة الروم كانت ترسل البعوث إلى تخوم الجزيرة وتهيج القبائل لحرب المسلمين من عهد النبي عليه السلام، وكان المسلمون يعيشون في فزع دائم من خطر هذه الدولة وأتباعها، يدل عليه كلام عمر وهو يتحدث عن أزواج النبي حيث يقول: «... وكنا تحدثنا أن غسان تنتعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أثم هو! ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم ... قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا. بل أعظم منه وأطول؛ طلق النبي
صلى الله عليه وسلم
نساءه!
وهو حديث يتبين منه مبلغ الفزع من تهديد الروم للجزيرة العربية بالليل والنهار.
فلما تولى الصديق رضي الله عنه الخلافة أنفذ بعثة أسامة التي يصح أن تسمى بلغة العصر الحاضر بعثة تأديبية لردع القبائل التي تعيث في الطريق بين الحجاز والشام تأمينا لتلك الطريق وتوطيدا لهيبة الإسلام في نفوس تلك القبائل. فلم تجاوز البعثة هذا الغرض المحدود ولم تلبث أن قفلت إلى المدينة بعد أربعين يوما في قول بعض المؤرخين وسبعين في قول آخرين.
أما غزوة فارس فقد كانت استطرادا لحروب الردة في أطراف البحرين، فكانت القبائل التي تدين لسلطان فارس توالي الإغارة على أرض المسلمين فيدفعونها ويقتصون منها ويتعقبونها في بلادها، وكان الصديق رضي الله عنه يجهل اسم القائد المقدام الذي كان يتولى الدفاع والتعقيب في تلك الأنحاء، فسأل عنه في شيء من العجب: من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه؟ فعرفه به قيس بن عاصم قائلا: هذا رجل غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد: هذا المثنى بن حارثة الشيباني!
فكان هذا الاستطراد في حرب الردة بداءة الاشتباك بفارس ومن والاها من قبائل البحرين والسواد، ومضت الحوادث شوطا قبل أن تنقلب إلى الحرب الضروس بين العرب وفارس في أوسع نطاق، فلما أرسل الصديق خالدا لنجدة المثنى أمره أن «يتألف أهل فارس ومن كان في ملكهم من الأمم.» وتقدم خالد في تأمين الطريق فصالح أهل الحيرة وغيرهم على «أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرا على مسلم من العرب ولا من العجم، ولا يدلوهم على عورات المسلمين ... فإن هم خالفوهم فلا ذمة ولا أمان، وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين فلهم ما للمعاهد، وعلى المسلمين المنع لهم ... وأيما رجل منهم وجد عليه شيء من زي الحرب سئل عن لبسه ذلك، فإن جاء منه بمخرج وإلا عوقب بقدر ما عليه من زي الحرب ...»
Shafi da ba'a sani ba