وقالت بنته أسماء رضي الله عنها: «لما هاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهاجر أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله خمسة آلاف درهم أو ستة. فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره. وقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه. قلت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة البيت الذي كان أبي يضع فيه ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده وقلت: يا أبت، ضع يدك على هذا المال. فوضع يده عليه وقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني أردت أن أسكن الشيخ.» •••
وكذلك أقبل الصديق على الإسلام وهو عالم بالذي هو مقبل عليه. لم يقل له أحد ولا قال هو لنفسه: إن الأمر أهون مما توقع، وإن البلاء بعقيدته التي تحول إليها أخف ما وجد، فلم يجد نصبا وكان يرجو الراحة، ولم يجد غرما وكان يرجو المنفعة، ولم يجد عداء من قومه وكان يرجو منهم المودة، ولم يجد خطرا وكان يرجو السلامة، وإنما دخل في شيء يتوقع ما هو ملاقيه فيه، ويراه دون حقه من المصابرة والحفاظ والاحتمال؛ لأنه الدين، لأنه الحياة الفانية والحياة الباقية، لأنه الحق ودونه الباطل، والهدى ودونه الضلال.
فما أقبل إنسان قط أصدق من هذا الإقبال، وما تأهب إنسان قط لبلاء في سبيل ضميره وربه أعظم من هذه الأهبة، وما نفس الصدق عند إنسان قط أغلى من هذه النفاسة. فهي سلامة النفس وسلامة الآباء والأبناء وسلامة المال والعتاد وسلامة الدنيا بأسرها يعلقها بكلمة صدق من رجل صادق، وإن أناسا ليصدقون غاية التصديق ثم لا يخاطرون في سبيل الصدق برزق يوم ولا براحة ساعة.
إنه الصديق.
وما وصف بكلمة واحدة هي أجمع لخلائقه من كلمة الصديق.
ولقد رأينا أناسا من الناقدين يستنكرون على عربي في الجاهلية أن يقوم الهداية الدينية بهذه القيمة التي لا تعلوها قيمة.
ولكنهم مخطئون.
لأن العربي الجاهلي عرف «الحق» وعرف بيع الحياة في سبيل «الحق» كما يراه: حق الجوار أو حق العرض أو حق الشرف والذمار.
وأبو بكر خاصة كان ممن يرعون الحقوق ويكفلونها لأهلها، وكان ممن يكرهون البغي وينقمونه على أهله.
Shafi da ba'a sani ba