ثم جاءت الشيوعية وهي قائمة على أن الأبطال صنائع المجتمع وليسوا بأصحاب الفضل عليه، وأن تعظيم الأبطال الغابرين يصرف الناس عن عيوب النظم الاجتماعية التي أنشأت أولئك الأبطال فخدموها قاصدين مدبرين أو على غير قصد منهم وتدبير، وأفرط الشيوعيون في تلويث كل عظمة يؤدي توقيرها إلى نقض مذهبهم ومخالفة دعوتهم، حتى بلغ من سخفهم في هذا أنهم غيروا أبطال الروايات في مسرحيات شكسبير وأمثاله فعرضوا «هملت» على المسرح لئيما ماكرا سيئ النية على خلاف ما صوره الشاعر؛ لأن تصوير أمير من أمراء القرون الوسطى في صورة حسنة يخل بما قرروه عن النظم الاجتماعية والسياسية في تلك القرون.
وتكاثرت على هذا النحو أسباب الغض من العظماء حتى صح عندنا أن العظمة في حاجة إلى ما يسمى «برد الاعتبار» في لغة القانون، فإن الإنسانية لا تعرف حقا من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها، وإن الإنسانية كلها ليست بشيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها أو حديثها ليست بشيء.
ومن ثم مذهبنا في توقير العظمة مع التفرقة بين التوقير المحمود والتجميل المصطنع الذي يعيب المصور ويضل الناظر إلى الصورة. فليس لنا أن نثبت جمالا غير ثابت، ولكن لنا - بل علينا - متى أثبتنا الجمال في مكانه أن نرفع الصورة إلى مقام التوقير.
قال زميلنا الباحث الفاضل الأستاذ أحمد أمين من نقده لكتاب الدكتور هيكل (باشا) في الصديق وكتابي في «عبقرية عمر»: ... بقيت مسألة هامة كثيرا ما اختلفت وجهة نظر الكتاب فيها، وهي أن العظيم مهما عظم له خطآت، وإلا ما كان إنسانا، والعصمة لله وحده. فهل واجب المترجم له أن يعرض لكل ذلك في تفصيل، فيذكر كل ما له ويشيد بذكره، ويذكر خطآته وينقدها، ويعلم بذلك درسا في نواحي مجده، ودرسا آخر في مواضع خطئه، أو واجبه فقط تجلية نواحي العظمة والتأويل والدفاع الدائم عن نواحي الخطأ؟ أنا أرى أن الرأي الأول أوجب، متأسيا بأبي بكر وعمر نفسيهما، والمؤلفان الفاضلان إلى الرأي الثاني أميل.
والواقع أننا إلى الرأي الثاني أميل كما قال زميلنا الأستاذ، ولكنه الميل الذي نحده بما قدمناه من حدود، ونحتج له بما بيناه من أسباب.
ويخيل إلينا أن الأستاذ نفسه يستطيب هذا الميل حين قال في صدر مقاله عن الكتابين: ... إن الأوروبيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم ويستقصي نواحي مجدهم، بل قد دعتهم العصبية أحيانا أن يتزيدوا في نواحي هذه العظمة، ويعملوا الخيال في تبرير العيب وتكميل النقص تحميسا للنفس وإثارة لطلب الكمال. أما نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا وجمهورنا والاستفادة منهم ...
فهذه السدود كثيرة في الشرق، كثيرة في العصر الحاضر حيث كان، وهي التي تجيز لنا - بل تفرض علينا - أن نوفي العظماء حقهم من التوقير، وأن نصورهم كما خلقهم الله، ثم علينا أن نرفع الصورة حيث شئنا بعد الصدق في التصوير.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
اسم وصفة
Shafi da ba'a sani ba