فهذا كلام رجل ممتلئ النفس باليقين مما يقول، فليس هو برأي انتقل إليه من غيره استحسنه وارتضاه، ولكنه - فيما نرجح - رأي اتفقا عليه وقلباه بينهما فازداد كل منهما يقينا به فوق يقين. •••
على أن هذه النصائح القوية بين يدي الموت تكشف من حياة أبي بكر ما ليست تكشفه الأخبار المطولة والأقوال المستفيضة، فهي تشهد له أنه قد سار في حياته تلك السيرة التي يريدها من الصحابة ويحث عليها أناسا في منزلة عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب، وأن تلك السيرة كانت من البدائه المعروفة التي يصدر عن صاحبها النصح فيسمعه أمثال هذين الصحابيين الكبيرين. وقد كانت هذه في الواقع منزلة أبي بكر بين الصحابة عامة وخاصة: استحقها بينهم بسابق إسلامه وقديم صحبته للنبي صلوات الله عليه، واستحقها برياضة نفسه على الكرامة والوقار حتى امتلأت النفوس حوله بكرامته ووقاره، ولم يكن أحد غير أبي بكر يسكت عمر بن الخطاب وقد ثار ثورته بعد موت النبي، أو يسكته وقد نهض للكلام أول مرة في سقيفة بني ساعدة، وما أسكته يومئذ لأنه خليفة فما كان يومئذ بالخليفة ولا كان عمر بالذي تسكته هيبة منصب أو سطوة سلطان، ولكنه رجل وقور يستمع له رجل حق. وناهيك بمن يهابه عمر بن الخطاب! إنه لأحق امرئ بين الصحابة أن يهاب.
الفصل العاشر
ثقافته
تعرف ثقافة الرجل المثقف بعلامات كثيرة، ولو لم تكن لها بالفكر والاطلاع صلة ظاهرة.
وندر أن يظهر من الإنسان أثر محسوس إلا كان فيه علامة من العلامات على نصيبه من ثقافة زمانه.
على أن هذه العلامات تتفاوت في الدلالة كما تتفاوت في القيمة، وأدلها وأقومها - فيما نرى - كلام الإنسان ورأيه في كلام غيره؛ لأن الكلام صورة نفسية وقدرة عقلية في وقت واحد. فهو يكشف عن نفس قائله كما يكشف عن قدرة عقله ومبلغ عرفانه بتصوير خلجات قلبه وخطرات ذهنه، فتقديره لكلامه وكلام الناس ميزان صادق لتقدير الرجل في جملة أحواله وأفعاله، وعلامة على الثقافة الروحية والفكرية قلما تضارعها علامة أخرى.
وتقدير الكلام من أصدق العلامات على ثقافة الصديق، سواء نظرنا في وزنه لكلامه أو في وزنه لكلام غيره، أو في وزنه للكلام عامة من حيث هو جزء من «الشخصية الإنسانية» يحرص عليه المرء كما يحرص على مقومات نفسه.
فالصديق كان أحرص الناس على كلام يبدر من لسانه، وكان أعلم الناس بموضع كلام الرجل من مروءته وشرفه، فكان قوله نزرا، ووصيته بالإقلال من المقال أسبق وصاياه إلى ولاته وعماله.
قال لخالد بن الوليد: «أقل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك.»
Shafi da ba'a sani ba