وكان من أسباب هذا الشوق القوي طول العهد بالأبناء بعد من ولدتهم له السيدة خديجة رضي الله عنها، وشماتة أناس من شانئيه؛ سماه بعضهم بالأبتر لانقطاع معظم نسله، وفي ذلك نزول الآية الكريمة:
إن شانئك هو الأبتر (الكوثر: 3).
فقد مضى نيف وعشرون سنة لم تلد له في خلالها زوجة من زوجاته، ومات في هذه الفترة كل أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها التي ماتت بعده بقليل؛ مات القاسم، والطاهر طفلين، وماتت زينب، ورقية، وأم كلثوم، بعد أن تزوجن، ولم يتعوض من فقدهن ما يعزيه بعض العزاء ...
فجيعة تضاعف الشوق إلى الوليد المأمول.
وطول انتظار يضاعف الحب له كما يضاعف الشوق إليه.
ولسنا ندري لما طالت الفترة التي مضت على أزواج النبي جميعا بغير عقب ... ولكننا لا نستبعد تعليلها باجتماع المصادفات التي لا يندر أن تجتمع في أمثال هذه الأحوال. فعائشة البكر التي لم يتزوج النبي بكرا غيرها قد مات عنها عليه السلام وهي دون العشرين. وهي سن قد تبلغها المرأة ولا تلد، وإن كانت ولودا فيما بعدها.
أما أزواجه الأخريات اللائي تزوجن قبله فلا نعلم من أخبارهن أنهن أعقبن لأزواجهن الأولين خلفا غير رملة أم حبيبة، وهند بنت أمية المخزومية، وهذه كانت مسنة يوم بنى بها النبي عليه السلام، وفي عمر لا يستغرب فيه امتناع الولادة.
فكلهن ما عدا هاتين لم يلدن للنبي ولا لزوج قبله، واجتماع هذه المصادفة ليس بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها إذا تذكرنا أن النبي قد توخى في اختيارهن تلك الأغراض العامة التي أجملناها في الفصل السابق ولم يتحر منها النسل خاصة؛ وهي الإيواء الشريف والمصاهرة، وبعضهن - بل معظمهن - قد لقين من الشدائد والمخاوف وعناء الهجرة البعيدة، ما يعقم الولود.
فإذا أضفنا إلى ذلك معيشة الكفاف وضريبة العظمة النبوية التي أشرنا إليها على سبيل الاحتمال، واشتغال النبي فيما بين الخمسين والستين بتعزيز الدين وقمع الفتن ودرء الأخطار؛ لم يكن فهم تلك الظاهرة الحيوية بالأمر العصي على التعليل.
حزن الأبوة
Shafi da ba'a sani ba