وقصارى ما يقال بعد تقرير الأسباب وتدوين القواعد أنها لا تمنع الفروق بين معركة ومعركة وميدان وميدان، وأن القائد الموفق هو الذي يلمح هذه الفروق فيعمد إلى العمل اللازم في الوقت اللازم بالقدر اللازم، فلا ينقص أو يزيد، ولا يتقدم أو يتأخر، ولا يوحد العمل مع وفرة الفروق ...
وإذا كان كل شيء في المعركة يتوقف أحيانا على كذا أو كذا من الخطوات في السبق إلى حومة القتال، وكذا أو كذا من الأشبار في طول الرماح، وكذا أو كذا من التفاوت في سرعة القذيفة هنا أو هناك، أو كذا وكذا من الحركات إلى اليمين أو إلى الشمال وإلى الأمام أو إلى الوراء، فتفصيل أسباب النصر في المعارك القديمة على التخصيص ضرب من المستحيل؛ لأن إثبات الفوارق بين المعسكرين في الأسلحة والمواعيد والعدد والحركة غير ميسور، وأقصى ما نطمع فيه أن نقنع بالإجمال دون التفصيل.
وإجمال القول في توفيق خالد بن الوليد أنه لم تعوزه قط صفة من صفات القائد الكبير المفطور على النضال، وهي الشجاعة والنشاط والجلد واليقظة وحضور البديهة وسرعة الملاحظة وقوة التأثير.
كان يضع الخطة في موضعها ساعة الحاجة إليها ... فكان يحارب بالصفوف كما كان يحارب بالكراديس، وكان يحارب بالكمين والكمينين كما يحارب أحيانا بغير كمين، وكان يستخدم التورية والمباغتة والسرعة على أنماط تختلف باختلاف الدواعي والأحوال.
وقد علم أن تمزيق الجيوش أجدى في الحرب من الحصار والاحتلال وعلم أن الخبر قوة وسلاح، فكان يستطلع أخبار العدو ولا يتيح له أن يستطلع خبرا من أخباره يفيده أو يحميه من بأسه ...
وأجدى من هذا جميعه أنه كان لا يغفل عن القوة الأدبية يعززها ما استطاع في جيشه ويضعضعها ما استطاع في جيش عدوه.
فكان هو نفسه مادة لهذه القوة الأدبية تجيش بها نفوس أنصاره فيثقون بالفوز ويأمنون خطر الهزيمة، وتشيع في نفوس أعدائه فيسري إليهم الذعر وتفارقهم الثقة والطمأنينة. •••
وإلى هذا، كان يعتمد على قوة الإيمان وهمة الأمل، فيتعهد جيشه بالعظات قبل القتال وفي أثناء القتال، ولا يفوته وهو مشغول بالضرب والطعن والتوجيه والمراقبة أن يطوف بين الصفوف للتذمير والتشجيع فيعمل ويقول القول الذي هو ضرب من العمل، فإذا قال: «إن الصبر عز وإن الفشل عجز وإن الصبر مع النصر» فليست هي أصداء تمر بالهواء، ولكنها في العز والصبر ماثلان للعيان يسريان بالقدوة منه إلى كل مسمع وجنان ...
وإلى هذا وذاك، كان يثير المنافسة الكريمة في صدور جنده وأعوانه، فيدعوهم إلى التمايز والتناظر لينفث فيهم مع عزيمة الإيمان عزيمة أخرى من حب الفخار وخوف المسبة والعار.
ويتخذ من الغيرة على العرض مددا لهذه العزائم التي تواجه الموت على حد قوله كما تواجه الحياة، فإذا بالرجل الفرد يبلي في قتاله ما ليس يبليه عشرات. •••
Shafi da ba'a sani ba