75

ووصل خالد إلى المذار وهو كامل التعبئة، فتصدى قارن لمبارزته على عادتهم قبل بداية القتال، فنهض إليه خالد ومعقل بن الأعشى يستبقان وأراد معقل أن يحمي خالدا من مثل مكيدة هرمز فيتلقى الضربة دونه أو يسبقه إلى قتل قارن، وبرز عدي بن حاتم وعاصم بن عمر لمنازلة الأميرين، فظفروا بهم جميعا ثم اشتبك الفريقان في ملحمة حاربوا فيها، كما قال المؤرخون حرب حنق وضغينة، وبلغ بغضهم بعدد القتلى من الفرس ثلاثين ألفا، ولولا النهر ولياذ الفرس بالسفن لكانت المقتلة أعظم من ذلك ولم يكد يفلت من الموت أحد. •••

ورانت الحيرة بعد وقعة المذار على عقول القادة من الفرس، فخيل إليهم أن في هؤلاء العرب سرا لا يدركونه، وأحبوا أن يحاربوا آفتهم بآفة من جنسها، فاستعانوا بأوليائهم من أبناء القبائل العربية فيما بين النهرين، واشترك هؤلاء في كثير من الوقائع التي دارت بين الفرس والمسلمين بعد وقعة المذار، وضايقوا المسلمين غير قليل في الوقعتين التاليتين بالولجة وأليس.

وكان خالد كعادته في الحيطة والمبادرة، فاستبقى طائفة من جيشه في البلاد التي فتحها حماية لظهره واستعدادا لمن يجترئ عليها بعد مسيره، وتقدم إلى الولجة على تعبئة كاملة بمن معه جميعا، ثم فصل طائفتين من الجيش في أثناء الطريق؛ ليكمنا على مقربة من الولجة ويلتفا في ساعة الحرج بالجيش الفارسي من ورائه. فطالت المدافعة والمراوغة بين الفريقين قبل أن يظهر الكمينان، وتردد النصر بين الفرس والمسلمين تارة هنا وتارة هناك حتى ظن الفرس أنهم من النصر قاب قوسين أو أدنى، ثم ظهر أحد الكمينين وظهر الكمين الآخر قبل أن يفيق الفرس من دهشة الكمين الأول، فتولاهم إعياء اليأس بعد إعياء المصابرة والمجاهدة، وولوا مدبرين وهم يتخففون من السلاح والعتاد في مهربهم ... فكثر منهم القتلى والأسرى كما كثر نصيب المسلمين من الغنائم والأسلاب.

وجاءت بعد وقعة الولجة وقعة «أليس» وهي أعجب الوقائع في حرب العراق بما اتفق فيها من صنوف الحيلة وصروف المقادير ومعارض النقمة وعواقب الرجاء مع الغالب وعواقب اليأس والقنوط مع المغلوب، ولعلها هي الوقعة الحاسمة في النزاع بين المجوسية والإسلام.

راع الشاهنشاه تلاحق الهزائم على جيوشه، وغاظ العرب الموالين له أن يؤخذوا في حماهم، وأنفوا أن يهانوا ولا يراهم الناس كفاء لتلك القبائل الواغلة عليهم، فتلاقوا في الرقعة الوسطى بين ديارهم جميعا وهي «أليس» وانتظروا هناك جحافل من الفرس وعدوهم أن تربى في العدد والعدة على كل جيش نزلوا به إلى الميدان في المعارك الماضية.

وهنا تتراءى في الموقف أصبع المقادير ...

فإن «بهمن جاذويه» قائد الفرس الذي أمره الشاهنشاه بالمسير إلى «أليس» أناب عنه قائدا آخر يدعى جابان، وشخص هو إلى المدائن ليلقى مولاه ويقلب معه الأمر على وجوهه في مسائل شتى لا تغني فيها المراسلة غناء الحديث والمشاهدة، وليأتي من المدائن بمدد آخر يضاف إلى جيشه الأول وإلى جموع القبائل العربية عند الفرات، وقال لجابان وهو يودعه «كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك، إلا أن يعجلوك.»

وبلغ المدائن فإذا مولاه مريض يجود بنفسه، وليس نظام الوراثة على عرش فارس في ذلك الحين من الوضوح والاستقرار بحيث يطمأن إليه إذا مات الملك والجيش بعيد والمتربصون كثير والشيع في البلاد أكثر من المتربصين ...

فبقي «بهمن» في المدائن، ووصل جابان إلى «أليس» قبل أن يصل إليها خالد فألقى أثقاله وأمر بتهيئة الطعام، ووصل خالد وهم مقبلون على طعامهم لا ينتظرون وصوله، فلبثوا على طعامهم؛ لأنهم أمروا من جهة ألا يعجلوا إلى القتال حتى يوافيهم قائدهم الكبير، ولأنهم من جهة أخرى لم يحسبوا أن خالدا ليس بالذي يلقي أثقاله وهو على تعبئة كاملة مستعد للنزال في كل لحظة؛ ولأنهم على ما يظهر كانوا يواجهون القتال أبدا كأنهم يواجهون ساحات الصوالج والأكر

2

Shafi da ba'a sani ba