أما غزوة تبوك فقد خرج لها النبي - عليه السلام - إلى حدود الروم سنة تسع للهجرة في أعظم جيش شهده المسلمون في حياته ... ومن ثم، أمر خالدا أن يذهب إلى دومة الجندل ليأتيه بالأكيدر أميرها؛ لأنه كان في وسط الطريق بين الحجاز والعراق والشام عينا للروم وحربا للقوافل يدين للقسطنطينية بالعقيدة وبالطاعة، ومن خبرة النبي - عليه السلام - بالقبائل وأحوالها والأمراء وعاداتهم أنه قال لخالد: «ستجده يصيد البقر» ... فكان كما قال.
وقد ذهب خالد إلى الدومة في أربعمائة وعشرين فارسا فاقتحم الحصن واضطر من فيه إلى التسليم ومنهم الأمير، وجاء به إلى المدينة فصالحه النبي على الجزية وعاهده على الأمان.
وثم بعثة من غير هذا الباب ندب لها خالد، ولم يندب لمثلها قط في عهد النبي ولا عهود خلفائه، وتلك بعثته إلى بني مراد وزبيد ومذحج باليمن، يدعوهم إلى الكتاب ويعلمهم شريعته وأحكامه.
قيل إنه مكث فيه أشهرا يدعوهم فلا يجيبونه، وإنه عليه السلام بعث بعده على بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالدا ومن معه، فإن أراد أحد أن يعقب معه تركه.
ولا غرابة عندنا في هذا الذي حدث - إن كان قد حدث على الوجه الذي ذكره الرواة - فإن خالدا لم يسمع من القرآن ولا من فقه الدين كما سمع الصحابة ممن عاشروا النبي سنين بعد سنين، وإنما هي سنوات قلائل لم يفرغ فيها إلا بضعة أشهر من الغزوات والبعوث، وقد أم الناس بالحيرة - في خلافة الصديق - فقرأ من سور شتى، ثم سلم والتفت إلى الناس معتذرا يقول: «شغلني الجهاد عن كثير من قراءة القرآن.» •••
ويجوز أن النبي - عليه السلام - أرسله في هذه البعثة؛ ليدربه على الدعوة وليفرغ بعض وقته للمدارسة والمذاكرة بهداية من معه من فقهاء الصحابة، ويجوز أنه عليه السلام تعمد أن يرصده للبطل المشهور عمرو بن معد يكرب - فارس زبيد - ندا له يكف من غربه ويلزمه التدبر في عاقبة نكثه وانتقاضه.
وفي تواريخ البعثة اضطراب قد يشكك القارئ في بعض وقائعها وأغراضها فيجوز أيضا أن البعثة وفقت بعض التوفيق أو كل التوفيق وأن الرواة قد فاتهم في هذا الصدد شي كثير أو قليل من التحقيق.
لكنها كائنا ما كان مصيرها ومصير عشر من أمثالها - لو ندب إلى عشر من أمثالها - لتسقطن من سيرة خالد ويبقين له ما هو حسبه من البطولة وصدق البلاء. وليكونن بها أو بغيرها خطيبا يبين من منبر التاريخ، وإن لم يحمله قط منبر التعليم.
الفصل السادس
حروب الردة
Shafi da ba'a sani ba