وعرفوا نظام الإمارة التي يتولى فيها الحكم نائب عن الأمير يفصل في قضايا الرعية بمعونة ذوي الرأي منها «إلا أن يكون غزو أو قتال»، فهو باسم الملك دون غيره، وهو النظام الذي جرى عليه أهل الحيرة زمنا مع ملكهم المنذر ونائبه زيد بن حماد من بني أيوب.
وعرفوا نظام الإمارة التي يختار أميرها من أمة أخرى كما تنتقل الأسر الأوروبية اليوم من مواطنها إلى الموطن الذي تحكمه بالمصاهرة أو بالاتفاق بين الدولتين. وعلى هذه السنة، اجتمع البكريون حين غلبهم سفهاؤهم وأكل قويهم ضعيفهم، فقال شيوخهم: «لا نستطيع دفع ذلك إلا أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير؛ فيأخذ للضعيف من القوي، ويرد على المظلوم من الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون، ولكنا نأتي تبعا فيختار لنا». فقصدوه فملك عليهم حجرا أمير كندة، وهو أبو امرئ القيس الشاعر المشهور.
وعرفوا الحمايات على أنواعها؛ حماية الإمارة التي تستعين بجيش أجنبي، وحماية الإمارة التي تعتمد على جيشها، وحماية الإمارة التي تدين لدولة واحدة، أو تدين لدولتين. كما حدث ذلك في ملك اليمن بين الحبشة وفارس وسادات البلاد.
وعرفوا رئاسة القبائل المنفردة ورئاسة القبائل المجتمعة إلى نسب واحد، ورئاسة الرحل الذين يرعون الإبل والشاء، ورئاسة أهل المدر الذين يغرسون المروج والبساتين ويزاولون التجارة من موسم إلى موسم ... •••
وكانت قريش تسمع بهذه النظم وتشاهدها في مواضعها وتقتبس منها ما هي في حاجة إليه. ولكنها لم تأخذ بنظام الإمارة؛ لأن التنافس بين بطونها يمنعها أن تتفق على ملك من إحداها، ولم تتعرض لنظام الحماية؛ لأنها بنجوة من سلطان الدول الأجنبية، ولم يوافقها نظام أهل الوبر ولا نظام أهل المدر؛ لأنها كانت وسطا بين الحضارة والبداوة كما قدمنا، وكانت ترعى مصالحها ومصالح الوفود التي تقبل إليها حاجة أو متجرة وليست هي من عشائرها التي تقبل منها حكم الشيخ في قبيلته على أية صفة من صفاتها.
فاختارت لها نظاما فريدا يوفق بين هذه الأطوار الاجتماعية المختلفة فيها، ولعله أشبه النظم بنظام المشيخة بين الرومان الأقدمين، وإنما يئول الرأي الأخير فيه إلى مجلس يجتمع من رؤساء كل بطن في القبيلة، ويوشك أن يكون أمره شورى أو على صورة الشورى التي ترضى بالمجاملة وإن لم يكن فيها رضا بالحقيقة؛ إذ الحقيقة أن المرجع الأخير إلى أقوى الأقوياء من أولئك الزعماء، كلما حزب الأمر وتشعبت الآراء ...
ومن زكانة الحكم عندهم أنهم فهموا مناط الرئاسة القرشية التي يدين بها حجاج البيت الحرام وقصاد مكة من الحضر والبادية، وهي الدين واللغة والتجارة المشتركة.
فحفظوا مناسك الكعبة، وجعلوا أسواقهم معرضا للبلاغة الشعرية والخطب المروية، وتعاهدوا على ضمان الثقة بالتجارة كلما غدر غادر بذمتها، أو اعتدى معتد على حقوقها. •••
واحتالوا على التوفيق بينهم بتقسيم المفاخر والمراسم على بطونهم وزعمائهم حسب أقدارهم ومزاياهم، فانتهى الشرف إلى عشرة بطون هم: هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، فكانت لهاشم سقاية الحاج، وكانت لأمية راية الحرب يخرجها عند القتال ليسلموها إلى قائدهم المختار، وكانت لنوفل الرفادة وهي إعانة الحجاج المنقطعين بالمال، وكانت لعبد الدار السدانة والحجابة واللواء، وكانت لبني أسد المشورة أو رئاسة مجلس الشورى في مهمات الأمور، وكانت لبني تيم الديات والمغارم، وكانت لبني مخزوم القبة وهي مجتمع الجيش والأعنة وهي قيادة الفرسان، وكانت لبني عدي السفارة، ولبني جمح الأيسار أو الأزلام، ولبني سهم الحكومة والأموال المحجرة، وظلوا يتولونها جيلا بعد جيل إلى ظهور الإسلام.
ولم يكن لهذه «الوظائف» الموزعة شأن واحد في جميع الأوقات والأحوال؛ بل كانت تعلو وتهبط على حسب الزعيم الذي يتولاها، وعلى حسب القوة التي يكون عليها بيته عند ولايته إياها، ولكننا إذا نظرنا إليها مجملة وجدنا منها ما كان يقصد به «جبر الخاطر» والإرضاء.
Shafi da ba'a sani ba