ثم أقبل على الناس بالنصح والموعظة، قائلا: «إياكم وتعلم النجوم، إلا ما يهتدى به في بر أو بحر ... فإنها تدعو إلى الكهانة، والمنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار!»
وقد لبث علي بن أبي طالب زهاء ثلاثين سنة منقطعا، أو يكاد ينقطع عن جهاد الحكم والسياسة، متفرغا أو يكاد يتفرغ لفنون البحث والدراسة ... يتأمل كل ما سمع، ويراجع كل ما قرأ، ويعرف كل ما يعرف، ممن يلقاه، ويستطلع أنباءه وآراءه وقضاياه ... فمهما يكن قسط الثقافة العالمية قليلا في بلاد الإسلام على تلك الأيام ... ففيه ولا ريب الكفاية للعقل اليقظان، والبصيرة الواعية أن تفهم ما قد فهمه الإمام، وأن يثبت ما أثبته نهج البلاغة من الخواطر والأحكام ...
على أن هذه الفنون من الثقافة - أو جلتها - إنما تعظم بالقياس إلى عصرها، والجهود التي بذلت في بدايتها.
فحصة الإمام من علم النحو - مثلا - عظيمة؛ لأن الابتداء بها أصعب من تحصيل المجلدات الضخام، التي دونها النحاة بعد تقدم العلم، وتكاثر الناظرين فيه ... •••
وهكذا يقال في الحساب والمسائل العلمية التي من قبيله، فلا يجوز لنا أن نقيسها بمقياس العصر الحاضر ... وهي في ابتدائها أصعب جدا منها في أطوارها، التي لحقت بها بعد نمائها واستفاضة البحث فيها ...
أما فن الثقافة الذي يقاس بمقياس كل زمن، فإذا هو عظيم في جميع هذه المقاييس، قليل الفوارق بين البدايات منه والنهايات، فذلك هو فن الكلم الجامعة أو فرائد الحكمة التي قلنا آنفا: إنها تسجل له في ثقافة الأمم عامة كما تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية، على تباين العصور.
فالكلم الجوامع التي رويت للإمام طراز لا يفوقه طراز في حكمة السلوك على أسلوب الأمثال السائرة.
وقد قال النبي - عليه السلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.»
فهذا الحديث الشريف أصدق ما يكون على الإمام علي في حكمته، التي تقارن بحكم أولئك الأنبياء.
فهي من طراز الحكم المأثورة عن أشهر أولئك الأنبياء بالمثل السائر، وهو سليمان بن داود. •••
Shafi da ba'a sani ba