أن أعداء الإسلام كانوا في شاغل عنه بما أصابهم من الوهن، وأحدق بهم من المخاوف، وربما صح في الفتنة الإسلامية يومئذ ما يصح في كثير من الطوارق التاريخية الكبرى، وهي أنها لن تكون شرا محضا في جميع عواقبها، ولا تخلو من الخير على غير قصد من ذويها ... فإن هذه الفتنة قد أغرت أعداء الإسلام بالانتظار، وأوقعت في روعهم أنهم غنيون عن التحفز والوثوب الذي يشق عليهم جهده، وهم في تلك الحالة من الجهد والإعياء ... فقنعت دولة الروم بهجمات ضعيفة تلقاها معاوية بالجلد والأناة، وألهى القوم عنه ببعض الإتاوات والنوافل ... فتراجعوا متربصين إلى أن يقضي الخلاف بين المسلمين قضاءه، وهم وادعون مكفيون شر القتال ... فكان هذا الانتظار الخادع جانبا من جوانب الخير في الفتنة الإسلامية، التي فاضت يومئذ بالشرور.
وعلى هذا انقضت أيام علي، وليس للحكومة الإسلامية سياسة خارجية تحسب من سياسة الفتوح، أو سياسة الدفاع، أو سياسة المفاوضة والاستطلاع ...
وكل ما يدور الكلام عليه عن حكومة علي، فهو من قبيل سياسة الحكم بينه وبين رعاياه، أو هو السياسة الداخلية كما نسميها في العصر الحديث ... •••
ومن اليسير أن نعرف سياسة الإمام بينه وبين رعاياه، بغير حاجة إلى الإطالة في التعريف وسرد الأمثال ...
لأنها سياسة الرجل الذي شاء القدر أن يجعله فدية للخلافة الدينية في نضالها الأخير مع الدولة الدنيوية.
فنحن نتخذ ما شئنا من طريقين متقابلين، فإذا طريق علي هي طريق الخلافة المنزهة، حين تقابل الدولة الدنيوية مقابلة الخصم للخصم أو النقيض للنقيض، أو هي أقرب الطريقين إلى المساواة وأدناهما إلى رعاية الضعفاء ...
فالناس في الحقوق سواء ...
لا محاباة لقوي ولا إجحاف بضعيف، وقد عمد إلى القطائع التي وزعت قبله على المقربين والرؤساء، فانتزعها من القابضين عليها وردها إلى مال المسلمين لتوزيعها بين من يستحقونها على سنة المساواة، وقال: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ... ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.»
وفرض الرفق بالرعية على كل وال، فلا إرهاق ولا استغلال، ولو كانت الحكومة هي صاحبة الحق في المال.
فمن وصاياه المكررة لولاته: «أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنهم خزان الرعية ... ولا تحسموا أحدا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبدا، ولا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم.»
Shafi da ba'a sani ba