ولو أن معاوية كتب عليه أن يحارب جندا مطيعا بجند عصاه، لما طمع في حظ أوفق من حظ علي في ذلك الصراع المتفاوت بين الخصمين ... ولو استعان بكل ما أعين به من رشوة الأنصار وكيد الخصوم، بل لعله كان يخفق حيث أفلح قرنه على قدر ما بينهما من فارق في الشجاعة والسابقة الدينية، وكذلك قال الإمام: «إن لبني أمية مرودا يجرون فيه، ولو قد اختلفوا فيما بينهم ثم كادتهم الضباع لغلبتهم.»
على أننا نود أن نقف عند الحد المأمون في تعليل النصر والهزيمة، ولا نعدوه إلى ما وراءه ... فليس من قصدنا أن نصف عليا بقوة الدهاء وسعة الحيلة، ولكننا قصدنا أن نبرئه من عجز الرأي وضعف التدبير؛ لأن أسباب الهزيمة موفورة بغير هذا السبب الذي لا دليل عليه ...
فقوام الفصل بين الطرفين، أنه لا دليل لدينا من الحوادث على عجز رأي ولا قوة دهاء ... ولو كانت قوة الدهاء صفة غالبة فيه لظهرت على صورة من الصور، وإن قامت الحوادث عائقا بينها وبين النجاح ... فإن الدهاء لا يخفيه أن تكون المعضلة التي يعالجها محتومة الفشل مقرونة بالخذلان ...
ومما لا شك فيه، أن عليا أشار بالرأي في مواقف كثيرة فأصاب المشورة، وأنه وصف أناسا فدل على خبرة بالرجال وما يغلب عليهم من الطباع والخصال، وأنه أخذ بالحزم في توقع الحوادث واستطلاع الأمور، ولكنه لزم الكفاية في ذلك، ولم يتجاوزها إلى الأمد الذي يسلكه بين الدهاة الموسومين بفرط الدهاء ... •••
فمن مشوراته الصائبة، أنه نهى عمر - رضي الله عنه - أن يخرج لحرب الروم والفرس بنفسه، فقال له: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب، لا تكن للمسلمين كائنة دون أقصى بلادهم ... ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلا مجربا ... فإن أظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءا للناس ومثابة للمسلمين.»
ومن وصفه للرجال وأساليب تناولهم، قوله لابن عباس وقد أرسله إلى طلحة والزبير: «لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تلفه كالثور عاقصا - أي: لاويا - قرنه يركب الصعب ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق ... فما عدا مما بدا؟»
ومن حزمه أنه كان يبث عيونه وجواسيسه في الشرق والغرب ليطلعوه على أخبار أعوانه وأعدائه، وأنه كان إذا وجبت الحرب بادر بالخروج، ولم يأته التردد والإبطاء بعد ذلك إلا من خلاف جنده.
ومن معرفته للجماهير أنه وصفهم أوجز وصف حين قال: إنهم أتباع كل ناعق، وإنهم «هم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا» ... لأنهم إذا تفرقوا رجع أصحاب المهن إلى مهنهم فانتفع بهم الناس ...
فهذا قسط من الرأي الصائب، كاف لمهمة الحكم لو تصدى به الإمام للخلافة ... والعصر عصر خلافة، وليس بعصر دولة دنيوية مضطربة في دور تأسيسها وتلفيق أجزائها.
بل هو قسط كاف لمهمة الحكم في الدولة الدنيوية، لو تولاها بعد استقرارها والفراغ من مكائد تأسيسها ... كما جاء عمر بن عبد العزيز في صلاحه وتقواه بعد الملوك الأولين من بني أمية ...
Shafi da ba'a sani ba