ولو كانت آفة الطاعة في جيش علي مقصورة على اجتهاد القراء والحفاظ، وتعجل الغلاة والمتمردين ... لكان في ذلك وحده ما يكفي لإفساد التدبير، واضطراب القيادة وتعذر القتال على أصوله ... إذ لا يستغني القائد في ميدان الحرب، ولا في ميدان السياسة عن الكتمان والمفاجأة، وتحويل الخطط على حسب الطوارئ والمناسبات ... فإذا كان في كل عمل من أعماله عرضة لاجتهاد أصحاب الفتاوى، وكان أصحاب الفتاوى يفترقون عشرين وجهة في كل حركة من حركات الجيش، فليست له خطة تكتم ولا خطة تنفذ، وليس عجيبا بعد ذلك أن ينهزم في ميدان القتال شر هزيمة يبتلى بها مقاتل ... بل العجيب أن يتماسك فترة من الزمن - وإن قصرت - أمام جيش يفوقه في العدد، ويرجع في أمره إلى قيادة موحدة ونية مجتمعة ومشيئة مطاعة ...
ولكن الآفة مع هذا، لم تكن كلها في اجتهاد الحفاظ وتعجل الغلاة ... بل كان في الجيش أناس يخونون عهده ويشغبون عليه، ويبدو من أعمالهم أنهم مسخرون لعدوه كارهون لانتصاره ... فإن لم يكونوا كذلك، فالأمر الذي لا شك فيه أنهم كانوا يعملون وهم عامدون - وغير عامدين - شر ما يعمله الخائن الخبيث الذي يتحين الفرص للعناد والشقاق، وإفشاء الخلل والخذلان في أحرج الأوقات.
وأدهى من ذلك، أنه لم يكن قادرا على زجرهم والتنكيل بهم ... لأن الجيش الذي يوجد فيه من يحرم حرب العدو، لن يعدم أناسا يحرمون حرب النصير المقيم على ظاهر الطاعة، وليس لك بينة قاطعة عليه.
ومثل من ذلك أيضا يغني عن أمثال كثيرة، وهو مثل الأشعث بن قيس أكبر سادات كندة، وأخلقهم أن ينصر حزبا على حزب، لو خلصت نيته وبرئت شيمته من التقلب والغدر بأصحابه ...
طمح هذا الرجل إلى الملك بعد موت النبي - عليه السلام - فدعا قومه أن يتوجوه ... وحارب المسلمين مع المرتدين حتى حوصر في حصنه أياما، ويئس من الغلبة فاستسلم ... على أن يصون دمه وبقية دم عشرة من أخصائه، ثم فتح الحصن فقتل كل من فيه، ونجا بالعشرة الذين اختارهم إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقبل توبته وزوجه أخته أم فروة، فلما نشبت الفتنة بين علي ومعاوية، كان هو من حزب علي يتطلع للفرصة السانحة.
ثم زحف علي - رضي الله عنه - إلى صفين، فكان الأشعث أول المندفعين إلى القتال حين سد أهل الشام طريق الماء، وجاء عليا يقول: «يا أمير المؤمنين! أيمنعنا القوم الماء وأنت فينا ومعنا سيوفنا؟ ... ولني الزحف إليه ... فوالله لا أرجع أو أموت.»
ولكنه عاد إلى المسالمة، بعد أن وضح النصر في ليلة الهرير، فخطب في قومه من كندة قائلا: ... قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب ... فوالله لقد بلغت من السن ما شاء الله أن أبلغ، فما رأيت مثل هذا اليوم قط ... ألا فليبلغ الشاهد الغائب أنا إن توافقنا غدا إنه لفنيت العرب وضيعت الحرمات ... أما والله ما أقول هذه المقالة خوفا من الحرب، ولكني رجل مسن أخاف على النساء والذراري غدا إذا فنينا ...
ثم ذهب إلى علي - رضي الله عنه - بعد رفع المصاحف، فقال له: «ما أرى الناس إلا قد رضوا وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن ... فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، فنظرت ما يسأل» ...
ولقي معاوية فسأله: «يا معاوية ... لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟»
قال: «لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله - عز وجل - في كتابه ... تبعثون منكم رجلا ترضون به، ونبعث منا رجلا، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ... ثم نتبع ما اتفقنا عليه.»
Shafi da ba'a sani ba