94

أما نهيه عن تشبه الذميين بالمسلمين، وكراهته أن يبدلوا أزياءهم التي ولدوا عليها، فلا يلام عليه حتى نعلم لم كان أناس من الذميين يودون التشبه بالمسلمين في الزي والشارة! أكانوا يتشبهون بهم حبا لدينهم، فهم إذن مسلمون لا يمنعهم مانع أن يجهروا بالإسلام، أم يتشبهون بهم كيدا لهم ورغبة في التسلل بينهم والإفلات من عهودهم والتزاماتهم، وما توجبه الدولة عليهم في تلك العهود والالتزامات؟

إن كانوا يفعلونه لهذا، فلا لوم على عمر أن يأباه، وبخاصة في الزمن الذي كان المسلمون فيه جميعا في حكم الجنود، وما من دولة ترضى أن تبيح أزياء جنودها لمن يشاء.

وأما إخراج بعض الذميين من الجزيرة، فما خرج منهم أحد إلا وقد غدر بذمته، وكرر الغدر مرة بعد مرة، كما صنع أهل خيبر.

ومنهم من أجلي عن الجزيرة لأنه طلب الجلاء فضلا عن نقضه العهد، كما فعل أهل نجران.

فقد صالحهم النبي على أن يبقوا في مساكنهم، ولا يأكلوا الربا، ولا يتعاملوا به، وجاء أبو بكر فجدد الصلح على ذلك، ثم استخلف عمر، فرجعوا إلى الربا وأفرطوا فيه، وكانوا قد بلغوا أربعين ألفا فتحاسدوا بينهم، وأتوا عمر يسألونه إجلاءهم، فاستحب هذا الجلاء.

على أنه لم يكن يأبى على التجار المأمونين أن يدخلوا الجزيرة، ويؤدوا العشور. فلما كتب إليه المشركون من أهل منبج أن «دعنا ندخل أرضك تجارا وتعشرنا»،

54

شاور أصحاب النبي فأشاروا عليه بقبولهم، فدعاهم إليه.

ولا يفوتنا في هذا الصدد أمران مقترنان بخطة الإجلاء التي لجأ إليها عمر، وأيقن بصوابها وضرورتها؛ فأول الأمرين: أن الجزيرة حرم الإسلام الذي كان يحيط به أعداؤه، ويتربصون به الدوائر، ويثيرون الفتنة على أطرافه، كما صنع الفرس بالعراق، والروم بالشام، ولا أمان على حرم يسكنه أناس فيهم من يغدر بأهله، بل فيهم من هؤلاء كثيرون.

وثاني الأمرين: أن عمر قد سوى بين الإسلام والنصرانية في هذه الخطة، فحفظ حرم النصرانية ببيت المقدس للمسيحيين، لا يسكنه معهم من لا يقبلونه، كما حفظ حرم الإسلام بالجزيرة العربية للمسلمين، لا يسكنه معهم من يحذرون غدره.

Shafi da ba'a sani ba