52
من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت.
وإذا أحصيت له في سيرته الطويلة أوامر وخطا تحرم الذميين بعض الحريات، أو بعض الحقوق، فكن على يقين أنه قد صدر في ذلك جميعه عن حكمة توجبها سياسة الدولة، ويقرها العقل والعرف، كما يقرها الدين والكتاب، ولم يصدر فيه قط عن حيف مقصود، أو عن رغبة في حرمان الذميين حرية يستحقونها، أو حقا هم أحرار فيه.
ولعل الذي يحصى له من هذه الأوامر والخطط، لا يعدو النهي عن استخدام بعض الذميين، ومنعم أن يتشبهوا في الأزياء والمظاهر بالمسلمين، وإجلاء بعضهم عن الجزيرة العربية في إبان الفتوح، والحذر من الكيد والتجسس والانتقاض.
فأما نهيه عن استخدام بعض الذميين فارجع إلى ما قاله في ذلك تعلم أنه منع استخدامهم لمصلحة العدل، وكراهة الظلم والمحاباة، فقال: «إني نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرشا.»
53
وطلب يوما من أبي موسى رجلا ينظر في حساب الحكومة، فأتاه بنصراني، فقال: إني سألتك رجلا أشركه في أمانتي فأتيت بمن يخالف دينه ديني. وقلما نهى عن استعمال اليهود والنصارى إلا ذكر بعدها: إنهم أهل رشا، ولا تحل في دين الله الرشا.
وكان له عبد من أهل الكتاب يقال له أسبق، فعرض عليه أن يسلم حتى يستعين به على بعض أمور المسلمين فأبى، فأعتقه وأطلقه وقال له: اذهب حيث شئت! فلم يكن نهيه عن استخدام أهل الكتاب في مهام الدولة إلا إيثارا للعدل وكراهة للرشوة والزيغ في الحكومة، وما نظن أحدا ينكر أن استخدام الغرباء عن الدولة خليق أن يحاط بمثل هذا الحذر، وأن يجتنب فيه مثل هذه الآفة؛ إذ يكثر بين المرتزقة الذين يخدمون دولة من الدول، وهم غرباء عنها، كارهون لمجدها وسلطانها، أن ينظروا إلى منفعتهم قبل أن ينظروا إلى منفعتها، وأن يساوموا على نفوذهم قبل أن يستحضروا الغيرة على سمعتها، والرغبة في خيرها وخير أهلها، ولا سيما في زمن كانت الدولة تميز بالعقائد قبل أن تميز بالأوطان.
وما من أمة في عهدنا هذا تبيح الوظائف العامة إلا بقيود وفروق متفق عليها: أولها تحريمها على الأجانب، ما لم تكن في استخدامهم منفعة عامة.
وهذه هي سياسة عمر في مسألة الوظائف القومية، بغير إعنات للدولة ولا إعنات للرعية، وكفى باتقاء الإعنات أن العبد المملوك يخير في الوظيفة والإسلام فيأبى، فلا يصيبه من ذلك ضيم، ويطلق له زمامه يفعل ما يشاء.
Shafi da ba'a sani ba