82

رأت كيف يصبح العدل والحق طبيعة حياة، وكيف يصبح مخلوق من اللحم والدم، وكأنه لا يأكل طعامه ولا يروي ظمأه إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يصحو ولا ينام إلا ليعدل ويعرف الحق، وكأنه لا يتنفس الهواء إلا ليمتنع الظلم عن الناس وتدول دولة الباطل بين الناس، وكأنما العدل والحق دين عليه يطالبه به ألف غريم، وهو وحده أقوى في المطالبة بهما من ألف غريم.

لقد كان هذا الرجل المجيد يبغض أن يظلم غيره أشد من بغضه أن يظلمه غيره، وهذه منزلة في الأنفة لا تطاولها المنازل؛ لأنها منزلة الأبطال الذين يسمون على أنفسهم، ولهم أنفس أسمى من عامة الأبطال.

وإننا لنعلم كم حز في قلبه الكريم أن يضرب بريئا على دين الحق كلما رجعنا إلى أيامه الأولى بعد الإسلام، وهي أيام لا تنسى في تاريخ البطولة والأبطال.

فما شغله أمر بعد إعلان الدين إلا أن يخرج ليضربه أناس كما كان يضرب أناسا في سبيل ذلك الدين.

ثار إلى الناس يضربونه ويضربهم، فقال خاله يسأل: ما هذه الجماعة؟ قيل له: إن ابن الخطاب قد صبأ، فقام على الحجر فنادى: ألا إنني قد أجرت

24

ابن أختي. فانكشف الناس عنه. فكان لا يزال يرى مسلما يضرب ولا يضربه أحد، وثقل عليه ألا يصيبه ما يصيب المسلمين، فذهب إلى خاله، وقد اجتمع الناس في الحجر وناداه: اسمع! جوارك مردود عليك.

25

قال خاله وهو به وبما يستهدف له أدرى: لا تفعل يا بن أختي. فأصر على رد جواره، وطاب له بعد ذلك أنه اقتص من نفسه للأبرياء الذين ضربهم وهو يجهل دينهم، فلا تمضي تلك الضربات بغير قصاص، وإن كفر عنها بالتوبة وإعزاز الدين الذي آذاهم من أجله.

وأبى من اللحظة الأولى إلا أن يواجه الخطر الأكبر في سبيل دينه، وإلا أن يقبض على الثور من قرنيه، كما يقول الغربيون في أمثالهم، وأن يتحدى قريشا بحقه مذ آمن بأنهم على باطل، فسأل أناسا: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، فذهب إليه فصرح له بإسلامه، ولم يكذب الرجل الظن به، فما هو إلا أن سمعها حتى خرج وعمر وراءه إلى أندية قريش حول الكعبة، يصرخ بأعلى صوته على باب المسجد: يا معشر قريش، ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ. وعمر يقول من خلفه: كذب! ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ثم تنشب المعركة بين هذا الرجل المفرد وبينهم، فيثب على أدناهم منه وأجرئهم عليه عتبة بن ربيعة فيصرعه، ويبرك عليه يضربه، ويدخل أصبعيه في عينيه لأنهما عمياوان عن الحق لا يبصران النور، ويتكاثرون عليه فلا يدنو منهم أحد «إلا أخذ شريف من دنا منه» حتى أحجموا عنه، وركدت الشمس، وفتر من طول الصراع، فجلس وهم قائمون على رأسه يثلبونه،

Shafi da ba'a sani ba