والعبرة التي نخرج بها من هذا أن النظرة الأولى في أخلاق عمر بن الخطاب حسنة، ولكن النظرة الثانية هي على الأغلب الأعم أحسن من الأولى!
فالناقدون الأوروبيون الذين فسروا عدله المستقيم القاطع بالنظر الضيق والفكر المحدود لم يفهموه ولم ينصفوه، ولو فهموه وأنصفوه لعلموا أن عدله المستقيم القاطع زيادة في القدرة، وليس بنقص في الفطنة، أو أنه زيادة في قوة الثقة، وقوة الإيمان، وليس بنقص في العلم والبداهة، ولم يكن عسيرا عليهم أن يفقهوا ذلك لو راجعوا أنفسهم وتريثوا في حكمهم؛ لأن قوة الثقة وقوة الإيمان لا تخفيان في خلق من أخلاقه، ولا عمل من أعماله، ولا تزالان ممزوجتين فيه بكل إقدام وبكل إحجام، فكان يقدم على أعظم الخطوب، ويحجم عن أهون الهينات تحرجا منها وتنزها عنها، إذا اقتضى ذلك وازع من قوة الإيمان.
فلم يكن يمضي قدما لأنه يغفل عما حوله من النواتئ والمنعرجات والسدود، بل كان يمضي بينها قدما لأنه لا يباليها، ويؤمن أصدق الإيمان أنها تنثني له إذا مضى فيها، فلا حاجة به أن ينثني إليها.
إنه ليعلم العوج، ولكنه يعلم أنه أقدر منه؛ لأنه يؤمن بحقه إيمان القوي الوثيق، فله من قوته ومن إيمانه قدرتان.
إنه ليرفع العبء إلى كاهله، وهو قائم لا يطأطئ للنهوض به، فليس الفارق بينه وبين غيره أنه يجهل العبء الذي يعرفونه، أو ينسى العواقب التي يذكرونها، أو يتحلل من المصاعب التي يتحرجون منها، كلا، إنما الفرق بينه وبينهم أنهم ينثنون للخطوب، وأن الخطوب هي التي تنثني إليه.
هذه القوة في إيمانه كانت هي المسيطر الأكبر على كل خلق من أخلاقه، وكل رأي من آرائه، بل كانت هي المسيطر الأكبر على ما هو أصعب مقادا من الأخلاق والآراء، وأشد عراما
29
من العقائد والشبهات، وهي دوافع الطبع وسورات الغريزة، وقلما خلا منها طبع قوي عزوف غيور.
فالأفكار والأخلاق جانبان من جوانب النفس الإنسانية، قابلان للضوابط والقيود، ولكن ما القول في الدوافع والسورات؟!
مثل الفكر كمثل السفينة الطافية على وجه النهر، لها شراع، ولها سكان، وعليهما معا رقيب من النواتية
Shafi da ba'a sani ba