ولكن أين هذا من عمر، وأين عمر من هذا؟ إنه كان قويا قادرا على العواقب، وكان شديد الألم من ظلم الظالم شديد الخجل من خذلان المظلوم، وكان وثيق الإيمان بنصر الله في الحق وفي النجدة؛ فلماذا ينحرف؟ ولماذا يتصرف؟ ولماذا يدور؟
كان قويا بطبعه، قويا بإيمانه فلماذا يهاب قويا جار على ضعيف؟ ولماذا يروغ من صرامة القاضي إلى دهاء السياسي الذي يدور حول الحقوق والحدود؟
للمستشرقين المتحدثين بالتفكير المحدود أن يأخذوا عليه تشهيره بكبار الولاة، ويثبتوا به كل ما قالوه عن ذلك التفكير المحدود الذي ينسى الفوارق، ولا يحتال على المحظورات، ولكن بشرط واحد.
ذلك الشرط هو أن يتوقعوا - ولو من بعيد - أن يثور ابن العاص ونظراؤه على هذا القصاص، فيختل حكم الدولة، وينتشر الأمر على الخليفة، ويقع من المحظور أضعاف ما كان واقعا لو بطلت المساواة بين السوقة والولاة.
أما أن يكون ابن العاص ونظراؤه لا يثورون، ويعلمون من هو عمر وما هي عقباهم إذا ثاروا عليه.
وأما أن يكون عمر لا يخشى تلك الثورة، ولا يعيا بها إذا هي فاجأته، أو جاءته على غير انتظار.
وأما أن يكون الأمر في ضميره، وفي ضمائرهم يجري على البديهة التي لا خفاء بها ولا شك فيها؛ فكيف يقال إذن إن تفكير عمر في قصاص الولاة كبارا وصغارا تفكير محدود؟ وأين هو في هذه الحالة موضع التفكير المحدود؟
إنه في موضع واحد، وهو - كما أسلفنا - موضع الناقد الذي يصف عمر بغير وصفه؛ لأنه هو محدود الفكر في قياس الرجال بمقياس واحد، أو في اعتقاده أن الخطوب تبقى كما هي، ولا تتغير كلما تغيرت عليها أيدي الرجال.
لقد كان عمرو بن العاص خطرا على الخليفة الذي يغض منه لو كان غير عمر، ولكنه هو والذين كانوا أجرأ منه على الفتن وأسرع منه إلى الغضب، لم يكن لهم من خطر إذا كان عمر هو الذي أمر بالعزل، وهو الذي قضى بالقصاص.
فأجرأ منه - ولا ريب - كان خالد بن الوليد، وأشهر منه بين سيوف الإسلام لو عمد إلى السيف، ومع هذا نقم خالد عزله فخطب الناس ومضى يقول: «إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثنية - أي حنطة - وعسلا عزلني، وآثر بها غيري.» فما أتمها حتى نهض له رجل من السامعين فقال له: صبرا أيها الأمير، فإنها الفتنة. فما تردد خالد أن قال: أما وابن الخطاب حي فلا.
Shafi da ba'a sani ba