Hikimar Gyaran da Ilmantarwa: Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Nau'ikan
لكن المسألة الشرقية جاءت في أوانها هذا فصنعت من المعجزات ما لم تصنعه تلك الحروب، وكان سر هذه المعجزة أنها فتحت أعين الشرق على مواطن عجزه ونقصه، وعلمته قهرا ما كان يأبى أن يتعلمه باختياره، فأدرك حاجته إلى التغيير العاجل، وأدرك ما هو ألزم له من ذلك، وهو حاجته إلى علم يجهله، واعتقاده أن أمم الغرب قد انتصرت بذلك العلم عليه، وأنه لا غنى له عن ذلك العلم ليستعيد القوة التي انتصر بها على أعدائه، قبل أن ينتصروا عليه ويأخذوا عليه كل طريق غير الفناء أو التغيير، ومن لم يطلب التغيير بعلم يتعلمه من المنتصرين عليه، فقد آمن بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وآمن بأن قومه غيروا دينهم فتخاذلوا وانخذلوا، فلا نجاة لهم بغير الرجوع إلى الدين الصحيح، مبرأ من لوثة البدعة والخرافة، سليما من شبهة الدجل والغفلة.
فإذا كانت قارة الاستعمار قد حصرت خطتها حيال الشرق في سياسة واحدة تريدها وتتعمدها، فهناك كما قلنا في كتابنا عن الكواكبي «سياسة أخرى لم تردها ولم تتعمدها تلقاها الشرق منها فهب لمقاومتها، وتيقظ لمطامعها، ونزل معها في ميدانها الذي استفزته له باختيارها وبغير اختيارها ... ونقصر القول على الشرق العربي كما كان في أواسط القرن التاسع عشر ... ففي تلك الفترة كانت مصر قد ظفرت بحصة كبيرة من الحكومة الذاتية، وكان لبنان قد خرج بعد الفتن والأزمات بنصيبه المقرر من الامتيازات الداخلية، وكادت جزيرة العرب أن تنعزل بالعودة الوهابية وتوشك أن تمتد منها إلى العراق، وكان العراق في صراعه مع حكم المماليك يتقدم في خطى سراع إلى الخلاص من ذلك الحكم المضطرب بين الكساد والوباء ... ولعلنا ندرك حقيقة الحال ونعلم أن وعود الإصلاح كانت ضرورة لازمة ولم تكن إنعاما ولا إحسانا من ولاة الأمور، إذا نظرنا إلى بقاع العالم العربي فلم نجد فيه بقعة راضية بما هي فيه، ولم ينهض أهلها للمطالبة بنوع من الإصلاح على نحو من الأنحاء، فتحرك السودان وتحركت الصحراء وتحركت قبائل المغرب في ثورتها، بل في ثوراتها التي تكررت ولا تزال إلى اليوم، وصدق على العالم العربي بين أطرافه المترامية قول القائلين في الغرب: «إنه مارد خرج من القمقم ولن يعود إليه.» وكان في الحق ماردا هائلا يتململ في الأسر ليخرج من قمقمه المظلم المحصور، ولكنه لم يكن ماردا معصوب العينين كما صوره أولئك الراصدون للقمقم، أو كما أرادوا أن يتصوروه؛ إذ كان للمارد زمامه في أيدي الهداة من القادة الملهمين ومن رواد الثقافة الأولين، وكان لهذه الهداية بين المسلمين وغير المسلمين طابع الشرق الخالد منذ الأزل، طابع العقيدة والإيمان. وربما قال الجامدون قبل المجددين: «إن الأوروبيين عملوا بأدب الإسلام، فأعدوا العدة ونظروا إلى حكمة الله في خلقه، فتقدموا وتأخر المسلمون.» •••
ونحن الآن نغتبط بالمصير الذي انتهت إليه المسألة الشرقية بعد منتصف القرن العشرين، ولكن واجب العظة الصادقة يتقاضانا أن نذكر في كل حين أن الشرق لم يكن سريع الخطى في انتقاله من دور الجمود إلى الخلاص؛ لأنه قضى نحو قرن كامل يجاذب بعضه بعضا عن الطريق القويم بين من يحسبون أن الخلاص كله في اتباع الجديد على علاته، ومن يحسبون أن هذا الخلاص مطلب بعيد المنال علينا، إذا نحن لم ننبذ الجديد بقضه وقضيضه، وكأنما خرج المارد من القمقم إلى فضاء الأرض والسماء، ولكنه خرج إليه مكبلا بالأغلال والأعباء التي تثقل الرءوس قبل أن تثقل الأقدام، ولبثت كل أمة من أمم الشرق الأدنى تنتظر القارعة التي تخصها بالعظة بين جاراتها وأخواتها التي تشبهها في المصاب وتشبهها في المصير، فلم تتعظ أمة من هذه الأمم بمصاب غيرها على النحو الرشيد الذي يعفيها من تكرار الجهود وابتداء المسير من جديد، وكأنما أثقال الماضي أكبر وأخطر من دواعي اليقظة والحركة في الحاضر والمستقبل، فبقيت هذه الأمم المتيقظة تجرجر وراءها تلك الأثقال شوطا بعيدا بعد استقامتها على منهج الإصلاح المحتوم.
وفي مصر كانت حملة نابليون هي الصدمة الكبرى التي خصتها بدروسها العاجلة، وكانت دروسا محتومة لا تمهل المتعلم أن يتردد بين الجمود والحركة.
وربما كانت الغلبة العسكرية أضعف تلك الدروس أثرا؛ لأن هزيمة المماليك لم تقع من الأمة موقع الدهشة، ولم يصعب على الذين كلفوا أنفسهم تدبر عواقبها وأسبابها أن يردوها إلى غضب الله، وأن يعتبروا بعبرتها عقابا للقوم على الظلم والطمع وسوء السيرة، وغلبة الترف والنعومة في الكثيرين منهم على صفات البأس والنخوة، كما قال شاعر الجبرتي:
إنما هذه البلاد لأقوا
م حموها بالصارم المسلول
وأرى دولة المماليك مالت
لشروب اللذات (كل مميل)
واغتنوا عن تجريد سيف ورمح
Shafi da ba'a sani ba