Hikimar Gyaran da Ilmantarwa: Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Nau'ikan
وقد ثبت هذا الخلق من هذين الرجلين ثبات السليقة المتأصلة فيهما، فلم يكن من عمل عادة متبوعة ولا من عمل تربية مكسوبة، وكان جمال الدين يعبث بحبات سبحته في حضرة السلطان عبد الحميد، وينبهه رئيس الديوان إلى قواعد التشريفة، فيجيبه ساخرا: «مه يا هذا ... إن السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليونا من بني آدم، أفلا يلعب جمال الدين بثلاثين حبة من حبات الكهرمان.»
وكان الخديو عباس الثاني يشكو من مسلك محمد عبده في حضرته ويقول: إنه يدخل علي كأنه فرعون! ... ويستمع محمد عبده إلى هذه الشكوى فلا يزيد على أن يقول: وأينا فرعون؟
وقد نزل جمال الدين بمصر وهي على حال كتلك الحال التي أخرجته من عزلته لينصر أحد الأميرين على أخيه؛ إذ كان الغيورون على البلد يخشون العواقب عليه إذا طال فيه حكم إسماعيل، ويفكرون في خلعه بإغراء الدول أو إغراء السلطان، وإسناد العرش إلى خليفته محمد توفيق، ولم يلبث جمال الدين أن تقدم الدعاة إلى هذا الانقلاب، فجمع الأنصار من مريديه والمعجبين به لمخاطبة وكلاء الدول باسم الأمة، وصارحهم بذلك، فاتخذوا من موافقته على خلع إسماعيل حجة عند حكوماتهم على موافقة الحزب المستنير في مصر لهذه السياسة التي كانت تتردد فيها بين الوعد والتنفيذ.
أما محمد عبده فقد كان عمله في هذه الحركة أوفق لسنه وأقرب إلى مزاجه الرياضي في شبابه؛ كان على عزيمة صادقة أن يزيل إسماعيل بيده، إن لم ينزل عن العرش باختياره أو يصدر الأمر من السلطان بعزله.
وكانت خديعة الخديو توفيق - مع ضعفه عن إنجاز وعوده - أول خيبة مني بها جمال الدين في خطته مع الأمراء والملوك، فإنه ظل يتودد إلى جمال الدين وأنصاره بعد ارتقائه العرش ويؤكد له كلما لقيه أنه يعتمد عليه، وأنه «كل أمله في مصر» لتحقيق برامج الإصلاح، ولكنه ضعف عن مقاومة الدول، وبلغ من مطاوعته لهم أنه كان يطلعهم على مطالب زعماء البلد منهم قبل النظر فيها ... ومن كلام أخصائه الإنجليز - وبينهم المؤرخ المشهور ألفريد بتلر - أنه كان يحتفل بمجاملتهم بين كبار موظفيه، فيقضي الساعات يتكلم معهم باللغة الإنجليزية التي لا يعرفها أولئك الموظفون، ويذكر الأسماء بالحروف الهجائية في سياق أحاديثه ليخفي موضوع الكلام عن سامعيه الذين يعرفون أصحاب تلك الأسماء، ويفضي في هذه الأحاديث بأخبار من المعلومات الخاصة والأوراق المحفوظة تتعلق بالأسرة وعظماء البلاد.
وإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه كما يقول أبو الطيب، فلا جرم يساوره الشك من جانب جمال الدين ويتوقع منه أن يأتمر به كما ائتمر بأبيه، ويغتنم الفرصة من حذر وكلاء الدول من دعوة جمال الدين إلى إعلان الحقوق الوطنية ورفع الرقابة الأجنبية، فيتفق على إقصائه والإعراض عن حزبه، ويمالئه على ذلك رجال الحاشية الخديوية على سنة الحواشي في كل بلاط يكره النصحاء ويحب الاستئثار بمسمع الأمير وهواه، وينتهي الأمر بنفيه والتشهير به - تسويغا لتلك الفعلة - في منشور بذيء لم يصب جمال الدين بمسبة، ولكنه ارتد على توفيق وحاشيته بالمسبة التي لا تمحى، وغير عليهم قلوب المخلصين من طلاب الإصلاح، فداخلهم الشك الشديد في إمكان الإصلاح على عهده بغير الثورة عليه.
وهذا بعض ما جاء في ذلك المنشور البذيء: «إنه لما كان الأمن والأمان والراحة والاطمئنان يتوقف عليها تمام العمران في جميع الممالك والبلدان، ومن أنجح الأبواب وأصلح الأسباب التي بها نجاح الممالك، وسلوكها في أقوم المسالك، قطع دابر المفسدين الساعين فيما يضر بالدنيا والدين، ويكون ذريعة للطائشين المتظاهرين بين الناس، بمظهر الحرية بدون أساس.»
ويتلو هذا كلام عن جماعة جمال الدين السرية يقولون فيه إنها جماعة «رئيسها شخص يدعى جمال الدين الأفغاني، مطرود من بلاده ثم من الآستانة العلية، لما ارتكبه من أمثال هذه المفسدة في ديارنا المصرية، وهذا من أكبر ما يغير الأفكار، ويجب أن يعامل مرتكبه بالتشديد والإنكار، فالتزمت هذه الحكومة الحازمة أن تتخذ الطرق اللازمة، وتستعمل السداد في قطع عرق هذا الفساد، فأبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية بأمر ديوان الداخلية، ووجهته من طريق السويس إلى الأقطار الحجازية».
ولم يذع خبر هذا المنشور إلا بعد سفر جمال الدين على غير علم من أكثر أصحابه ومريديه، وإنما علموا به بعد إعلانه في الوقائع المصرية (عدد الحادي والثلاثين من شهر أغسطس سنة 1879).
وكان السيد جمال الدين قد مكث بمصر في هذه الزيارة الثانية نحو ثماني سنوات، غرس فيها بذور نهضة مثمرة لم يشهد من ثمراتها الجنية ثمرة أنضج وأبقى من عزيمة تلميذه وخليفته «محمد عبده»، ففارق هذه الديار وهو يقول لمن يسألونه عن وصيته عليها: «حسبكم محمد عبده، حسبكم محمد عبده من وصي أمين.» وطفق يذكره في رحلاته بعد ذلك، فيكتفي من الدلالة عليه بوصف الأخ الصديق، فيعلم المستمعون إليه من يعنيه.
Shafi da ba'a sani ba