Hikimar Gyaran da Ilmantarwa: Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Nau'ikan
سمعت في بلدتي بأقصى الصعيد، وفي باكورة صباي، بمأثرة من مآثر هذا القلب الكبير، لم تكن إلا مثلا واحدا من مئات المآثر التي سمعنا بها بعد ذلك حيث نزلنا من أقاليم هذا البلد، ولا يزال الكثير منه معروفا مرويا في إقليمه، وإن لم يصل نبأه إلى غير أهله.
شغلت بلدتي - أسوان - قضية كبيرة تقلبت بين محاكم الصعيد والعاصمة أكثر من عشر سنوات، وأوشك الخصم القوي فيها أن يظفر بالحكم الأخير وأن يجرد خصمه الضعيف من حقه، مستعرا عليه بقوة المال والجاه وسعة الحول والحيلة، وقد شاعت الإشاعات التي تحققت بعد ذلك عن الرشوة المبذولة بألوف الجنيهات، ثمنا لذلك الحكم الأخير الذي ينقضي به الأمر ولا يقبل المراجعة والاستئناف.
وقبل صدور الحكم بأيام، يلتقي الخصم الضعيف بنائب بلدته في مجلس الشورى، فيستمع منه لإشاعة الرشوة ويرجحها له بما علمه من توكيد أنصار الخصم القوي ومن قسم مغلظ أقسمه أمامه أقربهم إليه: ليصدرن الحكم كما أملاه صاحبهم علي - فلان باشا - وليسمعن نبأه بعد أيام!
وكان نائب البلدة في مجلس الشورى يعرف الأستاذ الإمام من زمالته له في المجلس، فاصطحب المسكين إلى عين شمس، وترك صاحب القضية يبسطها للأستاذ الإمام بسذاجته التي تنم على الصدق الأليم والحسرة البالغة، فلم يكد هذا الرجل المثقل بشواغل وطنه الكبار يستمع إلى كلمة المظلمة والرشوة، حتى اعتذر لضيوفه جميعا وأفرغ من وقته زهاء ساعتين للإصغاء إلى قصة هذه القضية منذ نشأت قبل عشرة أعوام، وترك الرجل يقول ويعيد كما يشاء على ديدن المظلوم الملهوف في سذاجته وابتهاله واضطراب نفسه بين خوفه وأمله، فلم يتعجله ولم يقتضب عليه لجاجة شرحه وتكراره، ولم يدعه تلك الليلة إلا على وعد بأن يلقاه عند باب وزارة العدل، في موعد افتتاح الدواوين.
وفي اليوم التالي لم يذهب المفتي إلى دار الإفتاء، بل توجه توا إلى دار وزارة العدل، وكلف الرئيس المسئول أن يبعث في طلب «ملف القضية» من المحكمة، فقضى اليوم يراجع أوراق الملف مراجعة القاضي الخبير بأصالة الأسانيد، وأساليب المراوغة، وعلامات الغرض والتمحل في التأجيل والتعجيل، وأيقن بصدق الدعوى وخطر الحكم المنتظر فيها، فصنع ما لا ترتقي الشبهة إلى ذمته وعلمه، وصدر الحكم الأخير بالحق الذي يعرفه أهل البلدة جميعا، فظل أبناؤها يتحدثون بهذه القضية كما يتحدث المؤمنون بكرامة القديسين، وكان يوم وفاته - رحمه الله - مأتما في البلدة تبادل فيه الناس العزاء في المساجد، ونودي بنعيه على المآذن، وتقرب فيه المحسنون بالذبائح والصدقات على جوانب الطرقات.
كتب قاسم أمين عن مروءة الأستاذ الإمام بأسلوب القاضي الذي تعود أن يزن كلامه كما يزن أحكامه، فقال في رثائه يوم الأربعين:
بلغت فيه طيبة النفس إلى درجة تكاد تكون غير محدودة، كان يجذبه الخير كما يجذب المغناطيس الحديد، فيندفع إليه ويسعى إلى كل نفع للغير عام أو خاص. كان ملجأ الفقراء واليتامى والمظلومين، والمرفوتين والمصابين بأي مصيبة كانت، وأهل الأزهر الذين هم أكثر الناس احتياجا إلى المساعدة؛ لأنهم في وسط المدينة الحاضرة المتأخرون العاجزون عن الدفاع عن أنفسهم في ميدان حياتنا الجديدة، يبذل إليهم ماله ويسعى لهم عند ولاة الأمور بهمة لا تعرف الملل، كأنما كان يسعى لأعز إنسان لديه؛ يسعى مرة ومرتين وثلاثا إلى أن يقضي حاجتهم، وهم جميعهم في نظره مستحقون، سواء كانوا كذلك في الحقيقة أم لا، بل كان يسعى إلى صاحب الحاجة وهو يعلم أنه أساء إليه وقدح فيه وتحالف مع خصومه في ترويج عبارات القذف والنميمة التي لم تنقطع عنه مدة حياته، ولا يصل الإنسان إلى هذا الخلق العظيم إلا إذا ربى نفسه على أن تتغلب على الغرائز القبيحة الملازمة للطبيعة البشرية، وصار حاكما عليها يحاسبها على كل عمل أو نزعة أو فكرة أو خاطر مما يرد عليها. كان الأستاذ يرى أن الشر لا فائدة له مطلقا، وأن التسامح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء ويفيد في إصلاح فاعله ...
وفي هذا التأبين يقول قاسم:
من يرى أن الحياة لهو، وزين له أن يعيش ليأكل ويشرب ويسافر وينتقد أفكار الباحثين وعمل العاملين، أولئك لا يعلمون أن إمام مصر كان محركا بقوة فوق الاعتيادية، وأن عقله كان ملآنا بالفكر إلى حد أنه كان لا يسعه كله، إلى حد أنه كان يفيض منه بالرغم، وأن قلبه كان ملتهبا بحب وطنه فلا يستريح إلا وهو مشغول به وبسعادته وبمستقبله، وأنه كان مثل جميع نوابغ الرجال لا يبالي بالألم الذي يأتيه بسبب أمنيته التي كان يعزها، بل كان يجد الألم فيها لذيذا كما يلتذ العاشق بما يقاسيه من العذاب في هذا القبيل، ثم رأيته في الغد منغمسا فيه أكثر مما كان؛ ذلك لأنه كان بعكس ما يراه عموم المصريين في أنفسهم، عنده أمل لا يزعزعه شيء في إصلاح أمته ...
يقول قاسم هذا، وربما كان هو - رحمه الله - أحد أصدقائه المشفقين الذين كانوا يكفكفونه أحيانا عن إرهاق نفسه بالجهد والمجاهدة، كلما شعروا بحاجته إلى الراحة والدعة وأوجسوا خيفة على صحته، بل على حياته، من عنت خصومه ومصاعب الإصلاح في بيئته، مع فساد الزمن وغلبة الجهل والهوى على نفوس الغافلين المتهاونين، فضلا عن المغرضين المتعمدين للإحباط والإيذاء، وهم في ذلك الزمن وفي تلك البيئة كثيرون.
Shafi da ba'a sani ba