Hikimar Gyaran da Ilmantarwa: Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Nau'ikan
ولا شك أن الشيخ «عبده حسن خير الله» قد تلقاها خيبة أمل مرة في وليده المنذور للعلم والرئاسة الدينية والدنيوية، ولولا رجاء الأب الذي يأبى أن تزعزعه صدمة أو صدمتان لما عاود الكرة على الفتى المتمرد، ولا حال بينه وبين البقاء في القرية كما أراد، ولكنه لو كشف له حجاب الغيب، لعلم أنه يشاهد من فتاه الصغير أنضر بواكير العقل المستقل والمعارضة القوية، التي صار بها الطالب «الخائب» أستاذ الشرق الناهض بعد سنين.
أما الطريقة الأخرى، طريقة العقل والوجدان، فلم يكن بينه وبينهما غير إشارة لطيفة من أستاذه الفلاح البسيط درويش خضر، وغير كتاب مخطوط يلقى بين يديه ليقرأه ويستقل بفهمه ويسأل عما يغمض عليه من كلماته، إن شاء.
فلم تكن لهذه الطريقة مهابة المعهد الكبير أو الأساتذة الكبراء، ولم يكن لذلك الكتاب اسم يروع بالتواتر والتقليد، أو شكل يعجب بصنيع الطبع والتجليد، ولكنه كان بصفحاته المشوشة المبعثرة، وخطه الساذج الممسوح، كافيا لاجتذاب الطالب المتمرد على العلم وانصرافه عن لهو الفتوة في ملاعب الخيل وحلبات السباق؛ لأنه خاطب منه الذهن المتفتح والوجدان المتطلع إلى النور.
ولسنا نعلم اليوم شيئا عما احتوته تلك الصفحات المخطوطة، إلا أنها نخبة من حكم الصوفية وجوامع النوادر والأمثال.
ولكننا نستطيع أن نعلم عن تلك «الصوفية» أنها شيء غير الجذاب والتواكل، وغير الكسل والزهد في أعمال المعيشة؛ لأن أستاذه الذي هداه إلى ذلك الكتاب كان فلاحا يعمل في الزراعة، وكان يحضه على تعليم الحساب والهندسة والمنطق وعلوم الحياة، وينهاه عن العزلة واجتناب الناس، ولو كانوا على غير ما يرضاه من خلق وسيرة؛ لأنهم بذلك أحوج إلى الهداية ومصاحبة العقلاء.
ولا يخلو مذهب صوفي قط من التفرقة بين الظاهر والباطن، وبين شواغل الجسد وشواغل الروح، ولكن هذه التفرقة قد تتباعد بالفوارق كما يتباعد النقيضان، وقد تتباعد بها كما يتباعد اللباب والقشور. ومثل هذه الصوفية هي التي نعلقها من مزاج رجل كالشيخ محمد عبده له بنية الفلاح السليم، ونشاط الرياضي المقدام، وثقة العقل المستقل، وهمة الكفاح الذي يأبى أن يستكين لمغالبة الأحداث أو مغالبة الخصوم.
وفي الأسرة كلها على ما يظهر نفحة من هذه الصوفية العاملة التي تؤمن بحقيقة لهذه الدنيا وراء قشورها الظاهرة، فمن أجداد محمد عبده أولئك الفلاحون الذين أقاموا مساكنهم حول ضريح «عبد الملك»، وقامت المحلة كلها - من ثم - على أساس ذلك الضريح.
ومن خئولة أبيه الشيخ «خضر» الذي تدل تسميته على هذه النزعة من أبيه، ومنهم الشيخ «درويش بن خضر» الذي وضع بين يدي تلميذه ذلك الكتاب، وهو لا ينسى أن يحثه على العمل والعلم في كل لقاء، ومنهم أبوه «عبده» وأخوه «مجاهد» فيما تخلقا به من خلق، وما عرفنا عنهما من غيرة على العلم، مع اشتغالهما بالفلاحة وكفاح الحياة، وهذه الطبائع التي تهديها الفطرة السليمة إلى الإيمان بشيء وراء القشور وسر وراء الكلمات، قد تهديها هذه الفطرة السليمة بعينها إلى العصمة من أكاذيب الأدعياء وأباطيل اللصقاء بالصوفية؛ لأن طبيعة العمل والجد في فطرتهم تأبى عليهم أن ينخدعوا بما ينخدع به الكسالى الذين ينفرون من الجد الصادق بمقدار ارتياحهم إلى الأوهام الباطلة، ويرحبون بما يحبب إليهم التواكل والاستقامة إلى أحلام اليقظة وتعلات الغرور بمقدار إعراضهم عن الواقع الصادع والبرهان الدامغ، إن كان وراءهما جهد واجتهاد.
وغاية ما تسيغه الفطرة السليمة من استطلاع الأسرار أن تتفاءل بها لتمضي في عملها، ولكنها لا تتفاءل أو تتشاءم منها لتعرض عن العمل أو تركن إلى الكسل، وكذلك كانت فطرة هذه الأسرة في «صوفيتها» البريئة، فإننا سمعنا عن عقائدهم في الأولياء وأبناء الطريق، ولكننا لم نسمع عن واحد منهم ساقه اعتقاده إلى إهمال حقله أو إلقاء فأسه، والتخلي عن كفاحه للعيش، أو كفاحه للخصوم. •••
ومن هذا التفاؤل إصغاء الطالب المتبرم بدروس المعهد إلى الكلمة التي لوح بها من قال عنه: «إنه يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب» ... وقد سمعها منه يوم كان يحدث نفسه بالانتقال من طنطا إلى القاهرة، عسى أن يجد في الأزهر ما لم يجده في الأزهر الثاني أو الأزهر الصغير.
Shafi da ba'a sani ba