فقصت عابدة بعض الأخبار وأنشدت بعض الأشعار بعبارة فصيحة زادت الأمير عبد الله تعلقا بها، وأخيرا ذهب كل منهم إلى فراشه، ولكل منهم هاجس، وأشد تلك الهواجس عند الأمير عبد الله.
فإنه حين توسد الفراش أخذ يراجع صيغة كتابه إلى أخيه، فتذكر عبارات لا تخلو من الشدة، ولكنه استسلم للقضاء، وقال في نفسه: «لعلها فرصة يعود خيرها علي!» واستسهل العمل بمشورة الفقيه في المطالبة بولاية العهد، وعلل نفسه بأن أباه لا يدع الخلاف يتمكن بين الأخوين إلى هذا الحد.
قضى تلك الليلة قلقا وهو يتقلب في فراشه، وما إن طلع الفجر حتى أسرع إلى المكتبة، وبعث إلى سعيد فجاء وقد تأهب لترتيب الكتب، فطلب إلى الأمير أن يسعفه ببعض الخدم لمعاونته. فجمع كتب الأدب على حدة، وكتب الفقه وحدها، وكذلك فعل بكتب الحديث والتفسير والشعر، ولم يجد بينها كتابا في الفلسفة أو الطبيعيات أو نحوها من الكتب المترجمة عن اليونانية؛ لأنهم كانوا يعدون اقتناءها من قبيل الزندقة، وكان الأمير عبد الله مشهورا بالتقوى والزهد حتى سموه الزاهد.
1
وقد رأيت فيما تقدم إنكاره أمر هذه الكتب على أخيه حينما قيل له إن أخاه يقتنيها، وكان ذلك الاعتقاد شائعا في العالم الإسلامي مسايرة لما يريده الخلفاء، وهؤلاء كانوا ينكرون أمر هذه الكتب مراعاة للدين على ما يفسره الفقهاء في ذلك العهد، وكان رجال السلطة يراعون أقوال الفقهاء احتفاظا بنفوذهم لدى العامة.
فكان للفقهاء في الدول الإسلامية يومئذ نفوذ عظيم، وقد يكون الخليفة أو السلطان المسلم لا ينكر الفلسفة ولا يعتقد مخالفتها للدين، ولكنه يضطهد أصحابها مراعاة لشعور العامة.
على أن الفلسفة لم يكن لها وجود في الأندلس إلا بعد زمن الناصر؛ أي بعد أن دخلتها رسائل إخوان الصفا في أواسط القرن الرابع. فنبع فيها ابن باجة، وابن رشد، وابن الطفيل في القرن السادس للهجرة. أما في أيام الناصر التي نتحدث عنها، فقد كان قراء الفلسفة قليلين، وكان قد دخل بعض كتب الفلسفة في أيام عبد الرحمن الأوسط، فأخذ بعضهم بشيء منها ومن علم النجوم والرياضيات، ولم ينبغ من العلماء في هذه الفنون إلا عدد قليل، وإنما كان رجال الدين يحرمون هذه الموضوعات اقتداء بالدولة العباسية، فإنها كانت تطارد رجال الفلسفة وتتهمهم بالكفر في أوائل التمدن الإسلامي.
الفصل الثلاثون
طبيب ماهر
كان عبد الله يراقب حركات سعيد في انتقاء الكتب حسب الموضوعات، وربما ساعده في فرزها وهو في شغل من نفسه بأمر أخيه وعابدة. ونحو الظهيرة أحس بتعب وانحراف في صحته، فأخبر سعيدا بأنه مضطر للراحة، وبقي سعيد ثم جاء الفقيه، فلما قيل له إن عبد الله في فراشه أخذ يعاون سعيدا ويحادثه، ويتكهن كل منهما بما عساه أن يكون جواب الحكم على كتاب عبد الله الأخير مع ما فيه من المغامز، فكان الفقيه يزعم أنه موقن بما سيكون حتى قال: «كأني أرى جند الحكم وأعوانه قادمين للقبض علينا وعلى عابدة.»
Shafi da ba'a sani ba