فاستغرب الأمير عبد الله سؤال الفقيه وقال: «كيف لا؟! دعنا من هذا البحث الآن.»
قال الفقيه: «دعنا منه إذا شئت ، ولك الأمر يا سيدي. لكن لم يعد يمكنني كتمان ما في نفسي من الغيظ، بعد أن كتمته أعواما.»
فتفرس الأمير عبد الله في وجه الفقيه ابن عبد البر، فرأى الجد فيه، فقال: «وما هو؟»
قال الفقيه: «هل أقول ما في نفسي؟»
قال الأمير عبد الله: «قل، ولا بأس عليك.»
قال الفقيه: «ما برحت منذ أسندت ولاية العهد إلى مولانا الحكم، وأنا أقول في نفسي: لماذا لا تكون لسيدي الأمير عبد الله؛ لعلمي أن شروط الخلافة أوفر فيك عنه. ينبغي لسيدي الأمير عبد الله أن يعتقد صدق نيتي في خدمة المسلمين، ولا يخفى عليك أني صنيعة مولاي الحكم، وأنا أعرف الناس به، وقد خدمت مولاي الأمير أيضا واطلعت على الحقيقة في الأميرين، فكنت كلما خطر لي هذا الخاطر أشعر بانقباض، وأنا أكتم ذلك عن مولاي الأمير، وأما الآن فلا أجد بدا من التصريح بعد أن كدت أفتضح أو افتضحت في ذلك الموقف بالأمس، فلم أستطع كلمة أقولها، ولا أظن أن الأمير عبد الله ينسب ذلك إلى جهلي؛ فما هذه أول مرة وقفت فيها خطيبا كما تعلم، ولكنني أعترف لك أني حين شاهدت مجلس أمير المؤمنين وأبنائه إلى جانبه، ورأيت تمييز الحكم بالولاية والشارة والمجلس مع علمي بفضل الأمير عبد الله وما ترجوه الأمة على يده، لم أتمالك عن الغضب، وانقبضت نفسي وشغل خاطري حتى فقدت رشدي، فلما طلب إلي الكلام لم أستطعه كما رأيت.» قال ذلك، وقد بدا الاهتمام على محياه وعينيه، وتندى جبينه بالعرق.
فلما سمع الأمير عبد الله كلام الفقيه، اعتقد في إخلاصه، لكنه لم يقتنع بانتقاده، فقال: «أراك تقول ما تقوله نتيجة غضبك لنفسك، فلا ينبغي لك أن تجعل ذلك ذريعة للطعن على ولي العهد، ولولا اعتقادي صدق سريرتك لم أصبر على سماع كلامك. إن الحكم أجدر مني بهذا المنصب من كل وجه؛ إنه أكبر مني سنا، وأوسع علما، وأكثر خبرة.»
فخشي الفقيه عاقبة تصريحه، وكاد يغلب على أمره بين يدي الأمير عبد الله، فعمد إلى التخلص، فقال : «قد أسأت فهم مرادي يا سيدي؛ فما أنا طاعن على ولي العهد، ولكنني أقول ما أعرفه، ومع ذلك فأنت صاحب الرأي، وكنت أحسبك تؤمن بصدق نيتي في خدمة المسلمين. أنت أعلم مني بما صارت إليه الخلافة من الانغماس في الترف والانحراف عن خطة الخلفاء الراشدين. ألم تر ما يأتيه أمير المؤمنين من تقديم الخصيان دون سواهم حتى كادت السلطة تئول إلى غير أهلها. لا أخشى أن يحدث ذلك في عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر لتعقله وتقواه، ولكنني أخشى منه في أيام الحكم وهو لا يبالي.»
فقطع الأمير عبد الله كلام الفقيه وقال: «دع هذ الحديث أيها الفقيه وحدثنا بما يفيد، إني أراك قد تطاولت في طعنك إلى والدنا الخليفة عبد الرحمن الناصر صاحب هذه الدولة، وهو الذي أقام بنيانها وحارب الكفار وغلب الأعداء وناصر الدين!»
فابتدره الفقيه قائلا: «حاشا لله أن أنكر عليه ذلك! وإنما أنا أخشى ممن يخلفه. ألا تخشى على الإسلام إذا كان خليفته يقرأ كتب الفلسفة؟»
Shafi da ba'a sani ba