قال سعيد ذلك وأخذ يخلع ثيابه، فخلع الفراجية وعلقها على وتد في الحائط، ثم نزع قبعته من على رأسه ودار وهو لا يدري أين يضعها لاضطراب ذهنه، فرمي بها إلى الأرض، وأطفأ المصباح، واستلقى، فعادت إليه هواجسه، وهجره النوم، وتراكمت عليه الخيالات، فوضع الغطاء فوق رأسه كأنه يختبئ من هذه الخيالات فلم يرها إلا تزداد، وازداد انتباهه حتى سمع دقات قلبه بأذنيه. فصبر حتى أخذته سنة من النوم برهة، فرأي حلما أزعجه، فوثب من فراشه كالمجنون وهو يقول: «لا لا، يجب أن أحب عابدة التي تكاد تعبدني، وأنزع تلك الصورة من ذهني، وإلا فما أنا سعيد كما يسمونني. ما بالي لا أشعر أني أستطيع ذلك! ما هذا الخيال الذي يتردد أمام عيني! اذهب عني، دعني وشأني، إني قد عزمت على السلوان، كيف لا! إني أشعر بقوة أزيح بها الجبال، وأغالب أعقل الناس وأدهاهم، فكيف لا أستطيع امتلاك قلبي؟ ماذا أرى؟ هذا خيالها.» وأطبق كفيه على عينيه، كأن أمامه شبحا لا يريد أن يراه وقال: «اذهبي عني، دعيني وشأني، قد آن لي أن أرجع إلى رشدي، وقد بلغت الأربعين من عمري، فيجب أن أنسى عواطف أبناء العشرين والثلاثين. نعم، يجب أن أنساها لأنها نسيتني وتعلقت بسواي. تعلقت بسواي؟ إذن هي احتقرتني فيجب أن أنتقم منها. انتقم منها؟ لا، لا، لعلها معذورة، وإذا رأتني تتذكر الماضي وتعود إلي! هل يكون ذلك! وا فرحتاه! إني أراها تبتسم لي وتهم بمعانقتي. آه! ما أجمل رضاها! إنه ينسيني عابدة وسائر العباد. هل يجود علي الزمان بذلك! نعم، لا بد أن يجود. سأجعله يجود رغم أنفه. سأضحي بكل شيء في سبيل الوصول إلى تلك الحبيبة، فإما أن أنالها أو أنتقم منها ومن ...» وسكت لأنه سمع حركة فتوهم أن عابدة قادمة نحوه، فوقف، والظلام حالك، وهو يتوقع أن يسمع قرع الباب فلم يسمعه، فعلم أنه واهم، ولكنه عاد إلى تذكر عابدة فقال: «عابدة المسكينة! هل أهملها؟ لا، بل أجعلها سعيدة مع سواي. أو ... ولكن بعد أن تخدمني في تحقيق غرضي.»
الفصل التاسع
السحر والتنجيم
قضى سعيد معظم الليل في أمثال هذه الهواجس، ولم ينم إلا عند الفجر بعد أن تعب وخارت قواه، وأصبح في اليوم التالي فعاد إلى عمله، وشغل عن هواجسه بمقابلة الزائرين، وهو على أحر من الجمر في انتظار يوم الاحتفال، وقد أخذ في التفكير والتدبير لينتفع من الاجتماع في ذلك اليوم.
وأتته عابدة في أثناء الانتظار تتذرع إلى رؤيته بالسؤال عن وقت الاحتفال، فأجابها بأنه لا يزال يترقب معرفة الموعد، فمكثت عنده حينا تتشاغل باطلاعها على الكتب وهو يبدي سروره برؤيتها، وفي ذهنه تردد لم يظهره لها؛ لأنه كان قوى الإرادة، كبير المطامع، لا يبالي بما يقف في طريقه نحو هدفه، ولا بما قد يرتكبه في ذلك السبيل من الكبائر، فانتهز فرصة اجتماعه بعابدة في أثناء تلك الفترة لتهيئة المعدات التي ينوي إعدادها لتحقيق غرضه، وهي توافقه ولا ترى غير ما يراه، وفي جملة تلك المعدات كتاب قديم أخرجه من خزانة وأخذ يقلب صفحاته، وفيها رسوم وأشكال أشبه بالطلاسم، وهي لا تزداد بذلك إلا تعلقا به وانقيادا له، حتى صارت تعتقد أنه يستطيع كل شيء.
وبينما هما في ذلك أنبأهما جوهر الخادم بمجيء الفقيه ابن عبد البر، فخف سعيد لاستقباله، فلما دخل ورأي عابدة فرح بها، ووافق وجودها غرضا جاء من أجله، فحياها وسلم عليها سلام من يعرفها، فردت عابدة التحية بأدب وحشمة زادتها رفعة في عينيه، فوجه كلامه إلى سعيد قائلا: «أظن أنني أتيت في وقت غير مناسب!»
فأظهر سعيد سروره وقال: «بالعكس يا سيدي، فقد جئت وقت الحاجة إليك.»
فنظر الفقيه إلى الكتاب الذي بين يدي سعيد وقال: «لعلك عثرت على كتاب جديد!»
قال سعيد: «كلا يا مولاي. إن هذا الكتاب قديم .» وجعل يقلب فيه، فوقع بصر الفقيه على رسوم وأشكال اعتاد أن يرى مثلها في كتب السحر، فقال: «وساحر أيضا! إنك رجل نادر المثال.»
فقال سعيد: «لا تستغرب شيئا أيها الفقيه؛ فإن الإنسان إذا جد وجد، ولا أراني أعرض شيئا لا يستطيعه سواي، وعلى كل حال فليس لي ما للفقيه من العلم الواسع في الفقه وأصوله، وهو الخطيب المفوه.»
Shafi da ba'a sani ba