Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Nau'ikan
وجرى العرف نحو ثلاثة قرون على وحدة الخلافة في العالم الإسلامي، فمن نازع فيها فإنما ينازع فيها لأنه أحق بها على دعواه حسب الشروط التي يشترطها في مذهبه لصحة الإمامة، فيذهب خليفة ويأتي بعده خليفة، ولا تستقر الخلافة في وقت واحد لاثنين بحجة واحدة، وقد حدث أن الأمويين أقاموا لهم دولة بالأندلس، فلم يعلنوا خلافتهم على الأمم الإسلامية مع خلافة بني العباس ببغداد، ولم يخطر لعبد الرحمن الناصر أن يتلقب بلقب أمير المؤمنين عام (300-350ه)، إلا بعد قيام الدولة الفاطمية على مقربة منه في المغرب ومناداة أمرائها لأنفسهم بالخلافة، ولم يعارضهم الأمويون يومئذ إلا بتكذيب نسبتهم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ بل تصدى لهم من أمراء الموحدين من ينتسب إلى البيت النبوي لينازعهم الحق في إمارة المؤمنين.
وبعد قيام الدولة الفاطمية أصبح في العالم الإسلامي ثلاثة خلفاء، بين منتسب إلى النبي ومنتسب إلى قريش، وكلهم في نسبتهم العامة عرب قرشيون.
فلما كثر الجند من الترك في عاصمة الخلافة العباسية ملك قادتهم زمام الدولة، وبسطوا نفوذهم في قصر الخلافة، وصار كل من في القصر تبعا لهم مطيعا لأمرهم، بين حراس ومماليك وجوار وخدم وعيون وأرصاد، وانفرد الخليفة وحده بمقام الخلافة وليس له منها غير الاسم والخاتم وخطبة الجمعة في المساجد، وتهيأت للقادة من الترك فرصة المناداة لأنفسهم بالخلافة في بغداد لولا أنهم علموا أنهم يقيمونها على غير أساس من الدعوى الشرعية، وأنهم لا يطمئنون إلى ولاء رعاياهم من الترك أنفسهم إذا اغتصبوها بغير حجة من الشرع والسنن المأثورة، فتسمى أولئك القادة باسم السلاطين، وجعلوا يتقلدون مناصبهم في الدولة بتفويض من الخليفة صاحب الحق الشرعي في التنصيب والعزل والتفويض، وكان بعضهم يستبيح ضرب السكة باسمه كما فعل طغرل بك السلجوقي وزير القائم بأمر الله العباسي؛ لأنه تولى أمور المعاش و«الإدارة» بتفويض من صاحب الصفة الدينية، وهي الأمور التي يتولاها صاحب الشوكة و«السلطان».
ومما يدل على رسوخ الإيمان بشروط الخلافة بين أمم المشرق الإسلامية، أن رؤساء الدول التي قامت فيه تجنبوا لقب الخليفة أو أمير المؤمنين، واكتفوا بلقب السلطان أو الأمير أو النظام أو الشاه، ولم يشذ عن هذه القاعدة ملوك إيران من الشيعة؛ لأنهم يدينون بالإمامة لغير الملك صاحب العرش، وإنما يكون الملك نائبا عن الإمام محمد المنتظر إلى موعد أوبته في آخر الزمان.
وعلى هذا اتفق العرف في المشرق على اجتناب لقب الخلافة بغير شروطها، وجرى العرف على ذلك في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية، فإن ولاة الأمر من الأيوبيين - ومنهم صلاح الدين العظيم - كانوا يتلقبون بألقاب الملوك والسلاطين، ويحفظون شارة الخلافة لوريثها من الفاطميين إلى أن يبايعوا بها خليفة بغداد على مذهب أهل السنة الذي يدين به بنو أيوب، وعادت الخلافة وظيفة موحدة في العالم الإسلامي بعد زوال الدولتين الفاطمية والأندلسية، فانفرد بها خليفة بغداد، وإن لم يبق له منها - كما تقدم - غير الخاتم والعنوان .
ثم قضى «هلاكو» على آخر بني العباس، وقامت في مصر دولة المماليك الشراكسة، فلم يقدم أحد منهم على ادعاء الخلافة؛ بل عمد أقواهم وأشجعهم الظاهر بيبرس إلى الحيلة لإحياء لقب الخلافة وإسنادها إلى صاحب صفة شرعية من المنتسبين إلى بيوتها العريقة، فجاء برجل مجهول زعم أنه من ذرية بني العباس، وأشهد على ذلك شاهدين مجهولين في قضية علنية بمحضر كبير القضاة، ثم بويع هذا الرجل المجهول بالخلافة وتوارثها منه بنوه إلى عهد السلطان سليم العثماني الذي تلقى البيعة من آخرهم بالخلافة وعزز هذه البيعة بلقب «خادم الحرمين». •••
وقد كان سلاطين المماليك في مصر يستفيدون من إقامة «الخليفة العباسي» بينهم حجة يقابلون بها خصومهم أصحاب الإمارات والممالك الإسلامية الأخرى، فيقاومونهم أو يغيرون عليهم مفوضين بالقتال من صاحب الصفة الشرعية، وكان أقوى أولئك الخصوم سلاطين آل عثمان في بلاد الروم وما جاورها على مقربة من حدود البلاد المصرية، وهم السلاطين الذين تلقبوا بلقب «الغزاة» وجعلوه بديلا من لقب الخليفة الذي لا يقدرون عليه، فلما فتح السلطان سليم مصر وقضى فيها على دولة المماليك لم يكن يعنيه على ما يظهر من بيعة «الخليفة العباسي» إلا أن يتقي تفويضه لأحد غيره من الأمراء المسلمين بحجة شرعية لقتاله، فانتزع منه صفة الخلافة ليسقط كل حجة تجيز عصيانه أو إعلان الحرب عليه، وهو السلطان المعترف له بمقام «الغازي أمير المؤمنين».
على أنه سواء كان هذا كل قصده من بيعة الخليفة العباسي أو كان له مطمع آخر من تأسيس الخلافة العثمانية، لقد وقفت المسألة عند هذا الحد في عهده وعهود خلفائه، فلم يحاولوا أن يفرضوا بها فريضة جديدة في صفة الإمام أو شروط الإمامة، ولم يتخذوا منها مذهبا جديدا لتقرير حقوق الملك وحقوق الخليفة الشرعية للتمييز بين هذه الحقوق أو لتوحيدها والتوفيق بينها، وسكت شيوخ الإسلام في القسطنطينية عن بحث هذه المسألة من الوجهة الفقهية حتى لامهم الكاتب التركي المستعرب «حسن حسني الطويراني» عام (1850-1897م) على إغفالها، وقال في رسالته عن إجمال الكلام على مسألة الخلافة بين أهل الإسلام: «إن رأي الجمهور الجاري على لسان علماء المسلمين أهل السنة والمدون في كتب المعتقدات التي تدرس في العواصم كنفس القسطنطينية العظمى ومصر ومكة والشام وبغداد وغيرها، أن الأئمة من قريش، حتى إن حضرة صاحب الدولة والفضيلة عمر لطفي أفندي شيخ الإسلام السابق لما كتب حاشيته على العقائد النسفية لم يكتب شيئا بالسلب أو الإيجاب على مسألة الأئمة من قريش واختار التوقف ...»
وكل ما ذكره هذا الباحث المطلع عن استخدام سلاطين العثمانيين لصفة الخلافة: «أن المرحوم مصطفى باشا العلمدار الشهير، لما رأى أن المملكة العثمانية قد أخذت تنكمش من أطرافها، على النقيض من انبساط قوة أوروبة وتقدمها، وتبين أن القوة قد ابتدأت تخدمها في مقاصدها، اغتنم فرصة إيقاع البيعة للمرحوم الغازي السلطان محمود خان سنة 1223 هجرية فبايع له واشترط شروطا بين الخليفة وبين أمراء الأطراف في الروملي، فكان على مقام السلطنة أن يعمل بالشريعة وألا يقتل أحدا أو يصادر مال أحد إلا بوجه شرعي، وعلى الأمراء السمع والطاعة، وأن كلهم تحت التكافل، وأشهد على ذلك العهد شيخ الإسلام وعموم الرجال، وتم الوفاق على تأييد الأمن العمومي والشرع العادل، وعادت وفود الأمراء إلى بلادهم ...»
Shafi da ba'a sani ba