Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Nau'ikan
أما ميدان العمل والحياة العامة فمجمل ما يقال فيه: إنه يتلخص في كلمتين تترددان بلسان المقال أو لسان الحال في كل أمة غالبة أو مغلوبة، ومتقدمة أو متأخرة، وحرة ناهضة أو متأهبة للحرية والنهضة، وهما: الحرية وحق الأمة.
ففي البلاد الإنجليزية كان سلطان الملوك يتقيد ويتبعه سلطان السادة النبلاء إلى القيد، ولم تهدأ فيها صيحة المطالبة بالمشاركة في الحكومة بين أصحاب الأموال وجماعات العمال، فكان العقد الثاني بعد منتصف القرن فاتحة العهد الذي برز فيه الأحرار وتمهدت فيه السبيل لطوائف العمال.
وفي البلاد الفرنسية قضت حرب السبعين على الإمبراطورية، وتحولت بالحكم إلى النظام الجمهوري على أساس المبادئ التي أعلنتها الثورة وتجاوبت بها أصداء العالم، وهي مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
وفي البلاد الألمانية ظفرت القومية المشتتة بالوحدة التي كانت تنشدها، واجتمعت الولايات التي كانت موطن المغيرين من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، فأصبحت قوة القارة التي يخشاها المغيرون!
وفي البلاد الإيطالية تجمعت تلك المتفرقات من قضايا العصر كله، ومنها قضية الاستقلال، وقضية الوحدة، وقضية السلطة الدينية، وقضية الحكومة الشعبية، فكانت - وهي تضطرب بجميع هذه القضايا - كأنها الحلقة الوسطى بين الغرب والشرق، وبين القارة الغالبة والقارات التي تشكو الغلبة عليها، فثارت إيطاليا قبل منتصف القرن تسترد الحرية من الدول الثلاث التي تنازعتها، وهي النمسا وفرنسا وإسبانيا.
وعند منتصف القرن ثارت على أمرائها الذين تنازعوها وفرقوا أرضها وأبناءها، وجمعت شملها في ظل رايتها الموحدة على رضاها، وفصلت الوطنية الإيطالية في قضية السلطة الدينية كما فصلت في قضية الملك والدولة، ثم فصلت في قضية الحكم فأقامتها على قواعد النيابة الشعبية، ولم ينقض القرن حتى دخلت في سباق الاستعمار؛ طامعة في أسلاب غيرها بعد أن كانت مطمعا للقادرين عليها من الغرباء عنها ومن أبنائها.
وقد توحدت إيطاليا بعد مجهودات كثيرة تفرقت مساعيها واتفقت قبلتها في النهاية، فكان الوطنيون المجاهدون يعملون جميعا على توحيدها والنهوض بها إلى مصاف الدول العظمى ويأنفون أن تكون بين جاراتها أقل منهم شأنا وأصغر منهن قدرا في مجال العلاقات الدولية، وهي أعرق منهن ماضيا وأقدم ثقافة، وموطن اللغات التي نبتت منه لغات اللاتين واقتبست منه سائر اللغات في أمم الحضارة ... إلا أنهم - مع هذا الاتفاق في الغاية - تفرقوا في الوسائل والمعايير السياسية، فأرادها فريق منهم «جمهورية حرة» تنال حريتها وتنشر مبادئ الحرية لغيرها، وعلى رأس هؤلاء المجاهدين حكيم إيطاليا ورائدها الأول يوسف ماتسيني، مؤسس «إيطاليا الفتاة» ثم مؤسس «أوروبة الفتاة»؛ إيمانا منه بأن الحرية في القارة الأوروبية شرط لا غنى عنه لدوام الحرية في بلاده.
وفريق آخرون يريدون بقاء الملكية على عرش واحد، أو يسمحون ببقائها إلى حين ريثما تتهيأ الفرصة لإقامة الجمهورية، وعلى رأس هؤلاء كافور الزعيم الوزير الذي كان يخالف الفريق الأول في سياسة الأحلاف الدولية، ويتبرع بإرسال الجيوش إلى القرم لمحاربة روسيا ومعاونة تركيا وإنجلترا وفرنسا، أملا في تأييد الدولتين الأخيرتين له في مساعيه الدولية، ويأسا من تأييد روسيا القيصيرية لقضية من قضايا الاستقلال والثورة على النظم الدولية العتيقة.
ويتوسط بين الفريقين فريق غاريبالدي الذي كان يستعين بالكتائب المتطوعة، كما كان يستعين بالجماعات السرية من قبيل جماعة الفحامين «الكربوناري»، ولا يرفض التعاون مع «إيطاليا الفتاة» كلما اتفقت الحملة على خصم واحد من خصومه وخصومها، ولكنه يتوجس من المحالفات الدولية ولا يؤمن بجدواها، ويكاد يقطع بتحريمها خوفا من مغارم المقايضة التي تجور على حقوق الدولة الناشئة كما تجور على أقاليمها ومواردها، ولا تعرف وسيلة من وسائل الأمم في جهادها لم يتوسل بها فريق من هؤلاء المجاهدين، ولم يتصل خبرها بطلاب الحرية في البلاد الشرقية؛ لانتشار الإيطاليين على شواطئ البحرين الأبيض والأحمر، وإقامتهم على طريق التجارة القديمة بين الهند والبندقية وجنوه، واشتراكهم من قبل الساسة والزعماء معا في حروب الدولة العثمانية.
ولا بد من الانتباه الدقيق إلى دخائل السياسة المزدوجة التي أملاها على الدولة الإيطالية وضعها الجديد بعد الاتفاق على توحيدها، فهي - من جهة - دولة أوروبية طامحة إلى مساواة الدول التي سبقتها في حلبة الفتح والسيادة، وهي من الجهة الأخرى أمة تشبه الأمم الشرقية في جهادها لدول القارة، وتتفق مع بعضها في مقاومة النفوذ العثماني وتشجيع الثورة عليه، ومن آثار هذه السياسة أن بيتها المالك كان على مودة «شخصية» ودولية تربط بينه وبين بيوت الحكم والرئاسة في أكثر الأقطار التي خضعت للسيادة العثمانية، فلما عزل الخديو إسماعيل جعل مقره الأول في البلاد الإيطالية، ولما هاجر الأمراء الإيطاليون من بلادهم في الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب العالمية الثانية، كان اختيارهم لمصر مقدما على اختيارهم للرحلة إلى قطر من الأقطار الأوروبية، وكان ملك إيطاليا يتوسط أحيانا في الأزمات المستحكمة بين أمم المغرب ودولتي فرنسا وإسبانيا، كأنه يرى أن هذه الأمم تطمئن إليه وتتقبل منه ما لم تتقبله من الحكومات الأوروبية، وقد تطوع الإيطاليون بعد احتلالهم «إرتريا» لبذل المعونة ونقل السلاح إلى سواحل جزيرة العرب؛ لمقاومة المنافسين لنفوذها من الأوروبيين وغير الأوروبيين، وكانت لهم جالية قوية في المدن السورية تعرب عن تأييدها للأحرار والثائرين توددا لهم أو نشرا للدعوة التي نقلتها من بلادها في إبان نهضة التوحيد والحرية. •••
Shafi da ba'a sani ba