Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Nau'ikan
فالسكان فيها كثيرون، ولكنهم أصحاب مرافق وأعمال لا تستأثر بها صناعة واحدة، ولا تنفرد الصناعة الواحدة بينهم بنمط واحد على وتيرة واحدة، سواء اشتغلوا بالتجارة التي يعمل فيها التاجر المحلي وتاجر القوافل وتاجر التصدير والتوريد، أو اشتغلوا بالزراعة التي يعمل فيها زارع الحقل وزارع البستان وزارع الخضر والأعشاب، أو اشتغلوا بالحرف اليدوية التي يعمل فيها النساجون والنجارون والحدادون والمختصون بفنون البناء وتعمير البيوت.
وفيما عدا هذا التركيب الاقتصادي يتنوع المجتمع في المدينة بائتلاف المذاهب والأجناس من أقدم الأزمنة قبل الإسلام وبعد الإسلام، وقلما يعرف مذهب من مذاهب الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو مذاهب الديانات الآسيوية لا تقوم له بيعة في حلب أو مزار مشهود مقدس عند أتباعه، وهي تتسع لأصحاب هذه المذاهب من العرب والترك والكرد والأرمن والأوروبيين، يتفاهمون أحيانا بلغة واحدة مشتركة، أو يتفاهمون بجميع هذه اللغات كلما تيسر لأحدهم فهم لغة أخرى غير لغته التي ولد عليها.
ولم تزل المدينة منذ القدم عرضة للمنازعات الدولية بين الفرس والإغريق، أو بين العرب والروم، أو بين المسلمين والصليبيين، أو بين أصحاب العقائد في الديانة الواحدة واللسان الواحد، وهي حالة لا تتكرر طويلا إلا تركت لها أثرين لا محيص منهما ولا مفر من التوفيق بينهما، فمن أثرها أن تزيد شعور الإنسان بعقيدته وحرصه على شعائره ومعالم دينه، ومن أثرها في الوقت نفسه أن تروضه على حسن المعاملة بينه وبين أهل جواره من المخالفين له في شعوره أو تفكيره، وهي رياضة عالية تعتدل فتبدو على أحسنها في السماحة الدينية ورحابة الصدر ودماثة الخلق وكياسة العشرة والمجاملة، وقد يجنح بها الغلو إلى مثال من الخلط بين العقائد والشعائر لا يعهد في بيئة لم تتعرض لتلك التجارب التاريخية، فقد روى دارفيو - المتقدم ذكره - أنه وجد في عين طاب «عينتاب» طائفة تسمى ال «كيزوكيز»؛ أي النصف والنصف، يصلون في المساجد ويحفظون القرآن ويعلقون المصاحف الصغار في أعناق أطفالهم، ويوجبون تعميد هؤلاء الأطفال وتقريب القرابين في المعابد المسيحية والذهاب إلى كرسي الاعتراف وإقامة الصلوات في عيد الميلاد وعيد القيامة. •••
ومن نتائج الائتلاف في المجتمع أن تتأصل في العادات خصال التعاون الاجتماعي، فتصبح المدينة العامرة معمرة قادرة على التعمير، ويكسب أبناؤها قدرة على تجديد عمرانها بعد الكوارث التي تنتابها كما تنتاب أمثالها من المدن على أيدي الفاتحين أو بفعل الزلازل والأوبئة التي كانت تنتشر في الشرق والغرب، فلا تسلم منها مدينة كثيرة الوراد والطراق يخرجون منها ويئوبون إليها بغير رقابة صحية على القواعد العلمية، وقد تمكنت حلب من تجديد عمرانها واستئناف علاقاتها ومعاملاتها مرات في مدى التاريخ المعروف منذ ثلاثة آلاف سنة، واستطاعت ذلك أربع مرات منذ القرون الوسطى إلى اليوم، ويشير ياقوت الحموي إلى خصلة التعمير والتأثيل في أهلها فيقول: «ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال، فقل ما ترى من نشئها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك؛ فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة، ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان.» (4) ومدينة سياسية
والمدينة الاجتماعية على هذه الصفة مدينة سياسية باختيارها وبما تنساق إليه من ضرورات تدبيرها وإصلاحها، فلا يسع إنسانا يقيم فيها أن يغفل عن السياسة التي تديرها ولا عن أحوالها التي تستقيم عليها شئونها المشتبكة أو يعتريها الخلل من جانبها، وربما حالت السيطرة المستبدة دون إطلاق الألسنة والأقلام في أحاديث هذه السياسة، ولكن المجالس التي تدور فيها الأحاديث بين أهلها لا تلبث أن تخلق لها منادح من القول المباح في باب النقد الاجتماعي، ولو قصرته على نقد الأحوال العامة وآداب العرف الشائعة، ولم تزد فيه على الحنين إلى الأيام التي كانت تخلو من عيوب هذه الأيام، أو على الثناء والذكرى لمن كانوا يسوسون الأمور سياسة لا يدركها الملام.
قال رسل في تاريخه الطبيعي لمدينة حلب - وهو يسمي المسلمين بالترك على عادة الأوروبيين في زمنه: «إنهم على احتجازهم في مسائل السياسة لا يقال عنهم إنهم سكوت صامتون، فإنهم يفيضون الحديث عن مسائل الديانة والآداب ومساوئ البذخ والترف، وشيوع الرشوة في الدواوين، وربما تحفظوا في الكلام على أخطاء الحكومة الحاضرة، ولكنهم ينحون على الأخطاء الماضية بغير هوادة، وسواء كان مجرى الحديث على هذه المسائل أو على أشباهها من المسائل الخلافية تراهم يحتدون في مساجلاتهم، ولا يطول الحوار بينهم دون أن يتطرق إليه الغضب حتى يفصل فيه صاحب الدار برأيه، إن كان من ذوي الصدارة، فيميل الأكثرون إلى الرأي الذي أبداه ...»
وإذا قيل هذا عن أواخر القرن الثامن عشر فالحالة السياسية في غير هذه الحقبة المظلمة لا تحتاج إلى بيان. (5) ومدينة متصلة
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن المدينة التي لها هذه العمارة وهذه العلاقات الاجتماعية على ملتقى الطرق المعبورة في القارات الثلاث لن تنقطع عن العالم في عهد من عهودها، ولن ينقطع العالم عنها.
إلا أن العلامات المحسوسة أوضح من الأحوال المفهومة في الدلالة على تمكن هذه الصلة وشدة الحاجة إليها، فمن هذه العلامات أن نقل الأخبار بالمشاعل والمصابيح كان معروفا في حلب قبل ستة وثلاثين قرنا كما يرى من ألواح «ماري» الأثرية التي كشفت بجوارها، أما في العصور الأخيرة فلم تخل حلب قط من الوسائل السريعة للانتقال أو نقل الأخبار، وحيثما وجدت وسيلة أسرع من سواها في قطر من الأقطار النائية لم تلبث أن تصل إلى حلب بعد قليل، وأن يفتن الحلبيون في استخدامها وتحسينها لزيادة السرعة فيها، فاشتهرت بالجمال السريعة التي نعرفها في وادي النيل باسم الهجين، واجتهد أصحاب القوافل بها في توليدها بين العربية والتركمانية؛ لتوريثها أحسن الصفات من فصائلها الممتازة، وانتظم فيها بريد الحمام الزاجل، وهو أسرع بريد عرفه الناس على المسافات البعيدة قبل استخدام البرق والبخار، ولكنهم في الخطوط التي تمتد من حلب وإليها، يحتاطون لعوائق الطريق فيغمسون أقدام الحمام في الخل ليشعر بالرطوبة في الجو، فلا يستدرجه الشعور بالعطش إلى الماء فينقطع عن السفر أو يسقط بين أيدي المترصدين له في الطريق. (6) ومدينة حساسة
وهذه العوامل المتأصلة جميعا قد بقيت إلى العصر الذي نشأ فيه الكواكبي وعاش فيه بين منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ بل كانت كلها على حالة من النشاط والتحفز توصف «بالحساسية» المفرطة التي تضاعف انتباه المنتبهين إليها على غير المعتاد في سائر العصور.
Shafi da ba'a sani ba