وإذا التزمنا بالمسار العام لحركة اليسار المصري تجاه عبد الناصر والمتجاوبين معه بالفكر في قمة السلطة، فيمكن تلخيص هذا المسار على الوجه التالي: أن عبد الناصر بدأ من منطلق وطني صرف، أو عن طريق التجربة والخطأ تبنى أفكارا اشتراكية «غير علمية» أي أنه يسير قدما بفكره ونشاطه في اتجاه تقدمي، وأنه في كل مرحلة يحدد في وثيقة سياسية مدى تقدمه بأفكاره الأولى، وأن لهذا المنهج - التجربة والخطأ - إيجابياته وسلبياته، ولقد حاول اليسار بشكل عام وباستثناء فترات الصدام العنيف، أن يضع ثقله لكي ترجح كفة الإيجابيات على كفة السلبيات مع الاهتمام بالتصدي لقوى اليمين سواء في هجومها السافر أو تسللها المستور أو التفافها على حركة التقدم في الثورة.
في حدود هذا الإطار يمكن أن يحاسب اليسار على مدى نجاحه أو فشله، على تنازلاته أو ضماناته، وكذلك على موقفه الراهن من تقييم التجربة كلها سلبا وإيجابا.
يطالبنا الدكتور فؤاد زكريا بأن ننزع من يد اليمين راية الحكم على التجربة بالفشل، بل يطالبنا بأن ننتزع من اليمين «هذا الشرف» شرف التنديد بفشل ما يسميه بالتجربة الناصرية.
لماذا؟
لأنه كصديق لنا حريص على أن نكسب المواطن المصري إلى صفنا قبل أن يخطفه اليمين.
إن الساحة المصرية أمامه تتلخص في حلبة صراع بين غول بشع هو اليمين، يريد أن يعتصر المواطن المصري كما كان يفعل قبل الثورة، وبين يسار قصير النظر يعطف الدكتور عليه وينصحه نصيحة تضمن له كسب المواطن المصري؛ لأن الدكتور على يقين من أن اليسار يريد بالمواطن خيرا. ويرى الدكتور أن الغلبة في هذه الحلبة ستكون لمن يبادر بإهالة أكبر قدر من التراب على تجربة ثورة 23 يوليو.
وهو يعلم اليسار ويلقنه بأسلوب أستاذ الفلسفة ماذا يقول، ليس أكثر ولا أقل مما يقوله اليمين: إن الثورة لم تكن ثورة، ولكن نكسة على الإنسان المصري من جميع الوجوه، طبقة حاكمة جديدة أكثر عددا من سابقتها في الحكم، مناظر اشتراكية ليست من الاشتراكية في شيء، انحرافات لا تقاس بها انحرافات مجتمع ما قبل الثورة، جبهة داخلية مفككة وجيش متفسخ، وتحت هذا الثقل الهائل يقف الإنسان المصري البسيط مخرب النفس والعقل مشلولا بالسلبية مستنكرا تماما كل ما وقع في وطنه عبر عشرين عاما بشهادة رآها الدكتور دامغة كأنها استفتاء شعبي عام، هي الاستقبال الشاذ للرئيس الأمريكي نيكسون.
إن الدكتور فؤاد زكريا يتهم اليسار بأنه ذاب في أحضان «التجربة الناصرية» ويتهم المواطن المصري بأنه مات تحت وطأة التجربة الناصرية وهو يطالب اليسار بأن ينتزع نفسه قبل فوات الأوان من عناقه القاتل للتجربة الناصرية، ليرد الحياة إلى المواطن المصري الذي لفظ أنفاس إنسانيته تحت أقدامها.
والحقيقة أن دائرة الرؤية عند الدكتور فؤاد زكريا - بالنسبة لليسار - قد توقفت عند عدد محدود من شخصيات يسارية اقتصر دورها على الهجوم المطلق على ثورة يوليو في مرحلة، ثم انتقلت إلى الدفاع المطلق عنها وتبرير سلبياتها بعد ذلك.
قد تكون هذه العناصر مرموقة ولكنها أيضا محدودة وأعتقد أن دورها قد انتهى.
Shafi da ba'a sani ba