الفصل الحادي والعشرون
جعفر بن الهادي
ولم يكن الفضل يجهل استماتة أبي العتاهية في سبيل المال، ولم يشك مطلقا في أنه لم ينقل ذلك الخبر إلا وهو يتوقع جائزة كبيرة، فأحب استرضاءه لعله يحتاج إليه في مثل هذه المهمة مرة أخرى، فمد يده إلى جيبه وأخرج صرة دفعها إليه وهو يقول: «إنك شاعر، وقد تعود الشعراء ألا
أضعافها من مولانا الأمين؛ فإنه سيأخذه الطرب لنجاحنا في ابتياع الجواري البيض، فلا يبالي من أجاز، وسأخبره بأنك كنت لنا عونا في الحصول عليهن.» قال ذلك وضحك ضحكة لها صوت وليس لها شكل كأنه يتضاحك، وجعل يده على كتف أبي العتاهية وهو يقول: «بارك الله فيك!» ومشى، فأحس أبو العتاهية أنه يريد الذهاب وحده فودعه وقبل يده ثم تحول، فقال له الفضل: «احذر أن تمضي إلى مكان يعرفه ذلك الوزير؛ فإنهم يقبضون عليك ويؤذونك، والأفضل أن تمكث في هذا القصر مع بعض رجالي، أو اذهب إلى منزلي أقم هناك وأنت في مأمن. وعلى كل حال لا تبعد عني كثيرا.» فطأطأ رأسه وتحول.
أما الفضل فإنه مشى وقد أزاح اللثام عن وجهه؛ لأنه أصبح في أمان حتى أقبل على الساحة المجاورة للحديقة، فرأى الباب مفتوحا على مصراعيه، والحرس مشغولون في حديث مع جماعة من الغرباء، عرف الفضل من مجمل حالهم أنهم من أهل البصرة، وأكثرهم من الخدم أو السياس؛ بعضهم يتحدثون، والبعض الآخر يقومون برعاية الخيول؛ يربطونها، أو يعلفونها، أو يصلحون شئونها، فما لبث أن أرسل نظره إلى داخل الحديقة حتى علم أنهم رجال جعفر بن موسى الهادي؛ لأنه شاهده يتمشى مع الأمين في أحد جوانب البستان. أما الفضل فلم يكد يقترب من الباب حتى عرفه الحراس فتسابقوا إلى خدمته.
وجعفر بن موسى هو ابن الخليفة موسى الهادي أخي الرشيد. وكان الهادي قد تولى الخلافة قبل أخيه الرشيد، ولم تطل مدته في الخلافة لأسباب سيأتي بيانها. وكان أبوهما المهدي قد أوصى بولاية العهد لولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، على أن يتولى الهادي أولا وبعده الرشيد، فلما توفي المهدي عام 169ه خلفه الهادي، فحدثته نفسه أن يخلع أخاه الرشيد، ويبايع لابنه جعفر هذا؛ ليبقى الحكم في أعقابه، فأعلن رأيه لخاصته، فوافقوه وخلعوا الرشيد وبايعوا لجعفر . ولم يسع الرشيد إلا القبول لعجزه عن المقاومة ورجال الدولة كلهم مع الخليفة، وقد سايروه جميعا إلا يحيى بن خالد البرمكي؛ فإنه جاء إلى الرشيد وشدد قلبه وضمن له الخلافة، وعرض حياته للخطر رغبة في استبقاء ولاية العهد للرشيد، وخلع جعفر بن الهادي منها، فغضب عليه الهادي وحبسه وهدده بالقتل، ولكن البرمكي استطاع بدهائه وقوة حجته من إقناعه أن يقر أخاه الرشيد في الولاية ريثما يكبر جعفر فيخلع الرشيد ويبايع لجعفر، ولم تمض مدة على هذا القرار حتى مرض الهادي، ومات بغتة ولم يحكم إلا سنة وثلاثة أشهر. وشاع يومئذ أن أمه الخيزران عجلت بموته انتقاما منه؛ لأنه أحب أن يغل يديها عن التصرف في شئون الدولة، وغيرة على أخيه الرشيد. وذهب يحيى البرمكي في الليل إلى الرشيد وبشره بالخلافة وأقره عليها؛ ولذلك حفظ الرشيد له هذا الجميل فأطلق يديه في أمور الدولة، ولم يكن يقدم على أمر عظيم إلا بمشورته، وجعل ولده جعفرا وزيرا أباح له التصرف في كل شيء، كما قد علمت.
وكان جعفر بن الهادي عند وفاة أبيه صغير السن، فلم يعمل شيئا، ولم يسعه إلا السكوت، وفي نفسه من يحيى وأولاده حزازات، وهو يعتقد أن الرشيد اغتصب الخلافة اغتصابا، وأنه تواطأ هو ويحيى والخيزران على قتل أبيه، وكتم ذلك في نفسه أعواما، وكان يقيم في البصرة. وقد أقطعه الرشيد أرضا واسعة، وخصص له الرواتب الكبيرة مثل سائر بني هاشم؛ فقد كانت السياسة تقضي في ذلك العصر بالاعتماد على الكرم في توقي الشرور، فالخليفة إذا تسنم ذروة الخلافة علم أن الأبصار موجهة إليه، وأن أكثر الناس حسدا له وغيرة منه هم أهله، فإذا كان حكيما وسع لهم أسباب الرزق، وأكثر من إكرامهم، وسهل عليهم وسائل الترف والقصف؛ لعلمه أنها تشغلهم عن الاهتمام بالخلافة، وتضعف من عزائمهم عن النهوض إذا دعوا إليها؛ ولذلك كان بنو هاشم منذ عهد الرشيد وما يليه من أكثر الناس انغماسا في الترف والقصف، لا شاغل لهم إلا انتقاء المغنين، والتمتع بالمأكل والمشرب في الحدائق والبساتين، واقتناء الجواري على اختلاف الطبقات للغناء والتسلية والخدمة. وأكثر ما يكون مقامهم في قصورهم بالبصرة، ولا يأتون إلى بغداد إلا لقبض مرتباتهم، أو لابتياع الجواري، أو بعض الآنية ونحوها، لكن الغالب أن يرسل الرشيد رواتبهم إليهم وهم قعود في قصورهم.
وكان جعفر بن الهادي أحد الهاشميين أصحاب الرواتب الكبيرة، وكان مقيما في البصرة، ولكن الترف والقصف لم يشغلاه عما في قلبه من النقمة على عمه الرشيد، أو على يحيى البرمكي وأولاده، وقد زاده نفوذ جعفر البرمكي في مصالح الدولة حسدا ونقمة. وكان مع ذلك يعلل نفسه برجوع الخلافة إليه بعد وفاة الرشيد، فلما رآه بايع لابنيه الأمين والمأمون بعده تحقق من فشله، وعزم على الانتقام ولا سبيل له إليه وليس من يناصره عليه، حتى إذا ظفر بالفضل بن الربيع تكاشفا وهما متفقان على كراهية جعفر البرمكي، وعدم الرضا عن الهيئة الحاكمة، فجعلا يعملان على قلب تلك الحكومة، ويتواعدان على التعاون. وكان هم ابن الهادي في الدرجة الأولى أن يسقط جعفر البرمكي من الوزارة، فإذا سقط سقطت ولاية العهد عن المأمون؛ لأنه هو الذي دبرها له؛ فلا يبقى بينه وبين الخلافة إلا الأمين، وهو يعلم مدى ضعفه وتهتكه، فتقرب منه وعول على تحقيق بغيته عن طريق السياسة التي اتخذها الرشيد في استبقاء الخلافة له، وذلك بتهيئة أسباب البذخ والترف لبني هاشم، وانشغالهم بالجواري والغناء عن طلبها.
فلما رأى ابن الهادي ميل محمد الأمين إلى الترف والقصف، لم يحاول أن ينصحه بالعدول عنهما، وإنما جعل يسهل له أسبابهما، ويساعده في طلبهما، ولو اضطره ذلك إلى إظهار الخلاعة أو التهتك في بعض الأحيان، والأمين غافل عن ذلك لاه عمن يحدق به من أهل الدسائس وأرباب المطامع. وكان ابن الهادي قد جاء إلى بغداد منذ بضعة أيام وهو يتظاهر أنه جاء ليتسلم راتبه، ونزل على الأمين فأخلى له قصرا خاصا بجانب قصره يقيم فيه بحاشيته وأعوانه، ويقضيان معظم النهار معا في اللهو والقصف من الصباح إلى المساء. وكان هو الذي نبه الأمين إلى اقتناء الجواري البيض المغنيات، وحرض الفضل بن الربيع على المبادرة إلى ابتياعهن منذ الفجر، على أن يعود بهن قبل انقضاء وقت الصبوح، فيتمتعون بالراح على رخيم أصواتهن.
الفصل الثاني والعشرون
Shafi da ba'a sani ba