وكان أكثر الناس سعيا في هذا السبيل الفضل بن الربيع؛ لأن أباه كان وزيرا للمنصور والمهدي، وكان هو يرشح نفسه للوزارة. فلما تولى الرشيد الخلافة قرب يحيى بن خالد البرمكي، وفوض إلى ابنه جعفر بن يحيى الوزارة بكل معانيها؛ لأن أباه يحيى كان سببا في توليه الخلافة، فشق ذلك على الفضل بن الربيع، وثارت في نفسه عوامل الحسد، ولم يدخر وسعا في خلق الأسباب للإيقاع به، ولم يجد سبيلا إلى ذلك إلا بالتزلف إلى زبيدة وابنها؛ لعلمه أنها تكره الفرس جملة والبرامكة خاصة، ولا سيما جعفر بن يحيى؛ لأنه حمل الرشيد على مبايعة المأمون «ابن جاريتها» بولاية العهد بعد ابنها الأمين، فكانت تقرب كل من ينصر ابنها ويطعن على المأمون؛ ولذلك كان الفضل يحضر مجلس الأمين في لهوه، ويسايره في قصفه، ويتملقه للغرض الذي قدمناه.
فاتفق في مجلس حضره أبو العتاهية تلك السنة أن ذكر الأمين عزمه على ابتياع بعض الجواري البيض ممن يحسن الغناء، يضمهن إلى اللواتي في قصره. وأكثر المغنيات يومئذ من الجواري الصفر.
وكانوا يقتنون الجواري البيض للترفيه فقط. وأول من علم الجواري البيض الغناء إبراهيم الموصلي مغني الرشيد، فأحب الأمين أن يتخذ مغنيات من البيض، فأخبره الفضل بن الربيع أن كبير النخاسين أتى بعدد من الجواري الحسان أنزلهن عند كبير من تجار الرقيق في بغداد، وهو يهودي واسمه فنحاس، وأن الناس معجبون بجمالهن الفتان، فيمكنه ابتياع بعضهن، ويعهد إلى الموصلي أن يعلمهن الغناء. وأخذ الفضل على نفسه أن يذهب في الغد إلى ذلك التاجر، فينتقي له أحسنهن طلعة، وأطربهن صوتا، فلما سمع أبو العتاهية ذلك، توقع منه ربحا كبيرا بالتواطؤ مع فنحاس؛ لعلمه أن الأمين لا يهمه مقدار ما يدفعه من المال في هذا السبيل.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، فرأى أن يذهب في تلك الليلة إلى فنحاس يخبره بعزم الأمين، وأنه هو الذي حمله على ابتياع الجواري من عنده، ويغريه على زيادة مبالغ كبيرة على الثمن الذي يقدره هو، على أن تكون تلك الزيادة مقابل سعيه في ذلك.
الفصل الثالث
غريبان
فهرول أبو العتاهية من ساعته يتلمس دار ذلك التاجر، والمسافة بينهما بعيدة؛ لأن قصر الأمين في جنوب المخرم في الجانب الشرقي من بغداد، ودار فنحاس في أعالي الجانب الغربي، بقرب دار الرقيق التي أنشأها المنصور؛ لما كان يبتاعه من الجواري والغلمان المجلوبين. وكان أبو العتاهية أبيض اللون، أسود الشعر، نظيف الثياب، له هيئة حسنة. وقد عرف باللباقة والحصافة. وكان تلك الليلة في ملبس بسيط غير ما تعود لبسه في مجلس الخليفة أو ابنه أيام كان ينظم الشعر ، وكان منذ عاهد نفسه على الزهد يلبس ثياب الفقراء. ولعل بخله حفزه إلى ذلك. وكان يلبس فوق ثيابه عباءة بسيطة، ويعتم بعمامة بسيطة كأنه من عامة الناس، فالتف تلك الليلة بالعباءة وغير شكل عمامته إخفاء لحقيقة أمره؛ لأنه ذاهب في شأن يحتاج إلى التستر.
فمشى على شاطئ دجلة وهو يتردد بين أن يصعد في إحدى السفن التي تسير في دجلة حتى يصل إلى الجسر، وينزل من هناك ماشيا إلى دار الرقيق، أو يجعل طريقه كله برا. وكان يفضل الذهاب ماشيا فرارا من نفقة الانتقال بالسفينة، أو على دابة من دواب الأجرة، فلما أطل على دجلة رأى بالقرب من الشاطئ شراعا منشورا وسفينة تخترق عباب الماء على عجل، فاستبشر وعزم على الركوب بها. وكان الليل قد أسدل ستاره وسكنت الطبيعة لبعد ذلك المكان عن الشوارع المزدحمة في الكرخ؛ لأن أكثر الأبنية القائمة على ضفاف دجلة من القصور الشماء، والحدائق الغناء، للخليفة أو وزيره أو بعض أولاده أو أهله، فصاح أبو العتاهية بالسفينة أن تقف فلم يجد صياحه نفعا، فأعاد النداء، فأجابه ربانها بأنه لا يستطيع الوقوف، فأعاد الصياح قائلا: «قف. ناشدتك المروءة.»
فسمع أبو العتاهية عند ذلك لغطا، ورأى النوتية في حركة عند الشراع فأرخوه بحيث تبطئ السفينة في سيرها، ورأى حركة المجاذيف فعلم أن أهلها في عجلة لأمر ما، وليس لمجرد النزهة في مياه النهر على جاري عادة أهل بغداد. ولم تكن الليلة مقمرة تشجع على النزهة. وبرز رجل حتى وقف على حافة السفينة ونادى: «من أنت؟»
فقال أبو العتاهية: «إني غريب أمسى علي المساء، وأحب الطلوع إلى الحربية، ولا أعرف الطريق.»
Shafi da ba'a sani ba