وخرج حمدان مسرعا للقيام بهذه المهمة.
وكانت العباسة في أثناء هذه الحوادث على أثر اجتماعها الأخير بجعفر وما سمعته من وعده بالذهاب إلى خراسان وذهابها معه؛ لا تنفك تفكر في هذه الأمنية وهي لا تصدق أنها ستظفر بها؛ لأنها كانت تفضل الإقامة مع زوجها وولديها سالمين آمنين في كوخ حقير على الإقامة في تلك القصور الفخمة تحت الخطر وأعين الرقباء، ولا سيما بعد أن اطلع أبو العتاهية على سرها، ورأى ولديها بعينيه، وحدث ما حدث من إساءته، فكانت لا يهدأ لها بال خوفا من أن يبلغ ذلك أخيها - والعياذ بالله - وكانت لا ترى اثنين يتساران إلا ظنتهما يتباحثان في شأنها، ولا رأت كوكبة من الفرسان مارة بقرب قصرها إلا حسبتها آتية للقبض عليها. ولم تكن تتعزى بشيء مثل اجتماعها بجاريتها عتبة، وكانت تبوح لها بمخاوفها، وهذه تطمئنها وتمنيها حتى علمت في ذلك اليوم أن الرشيد عقد لجعفر على خراسان، ورأت الناس يتسابقون في الطرق لحضور الاحتفال بذلك، فكادت تطير فرحا، ومكثت تتوقع أن يأتيها رسول جعفر، وانقضت عدة ساعات حتى علمت بخروج أعوان جعفر ورجاله إلى النهروان ولم يأتها الرسول، فخطر لها أن يكون حبيبها قد شغل عنها، وشكت في صدقه - والمحب كثير الشكوك - وهمت بالشكوى إلى عتبة - وكانت جالسة معها في الشرفة التي انتظرت فيها جعفر منذ أيام - وإذا بحمدان مقبل بملابس أحد خدم قصرها، فلما رأته قادما أرسلت عتبة لاستقباله واستلام الرسالة منه، فلما لقيها قص عليها المهمة التي أتى من أجلها، وألح عليها أن تبلغ مولاتها بأن تكون على أهبة السفر بما خف حمله، وأن تتنكر في ملابس إحدى الجواري حتى إذا جاء الرسول؛ وهو أنا، فلا يحتاج في إخراجها إلى أكثر من كلمة. فلما أخبرتها عتبة بذلك بكت من شدة الفرح، وأمرتها باستدعاء حمدان إليها لتسمع تلك البشرى من فمه، فدخل ووقف متأدبا، فقالت له : «كيف فارقت سيدك؟»
فقال حمدان : «هو بخير، ويبلغك السلام يا مولاتي.»
قالت: «ومتى تظننا نخرج من هنا؟»
قال: «ربما في صباح الغد.»
فالتفتت إلى عتبة لفتة فهمت أنها تذكرها بالولدين: الحسن والحسين، فقالت: «إنهما في مأمن مع الخادمين، كما تعلمين، ومتى خرجنا من بغداد بعثنا من يستقدمهما من الحجاز أو حيث يكونان، وتتخلصين من هذه المخاوف.»
فتنهدت العباسة تنهدا عميقا، ولكن البشر كان يتجلى في وجهها، فصرفت حمدان ودخلت إلى غرفتها وأخذت عتبة في الاستعداد للسفر، وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل، والعباسة منفردة في تلك الغرفة، فما لبثت أن أصابها رد الفعل فانقبضت نفسها وغلبت عليها عواطفها؛ لأنها تصورت نفسها هاربة من قصرها ومن بين يدي أخيها، وستترك ذلك القصر بما فيه من أسباب السعادة وقد تعودته وألفت قاعاته وحدائقه وأثاثه وخدمه وجواريه وكل شيء فيه. نعم إنها تفضل الإقامة مع حبيبها في كوخ على الإقامة وحدها في قصر، ولكن الإنسان ابن العادة إذا ألف شيئا شق عليه فراقه، فكيف بها وقد ربيت في ذلك القصر ولم تخرج منه إلا نادرا؟! على أنها كانت إذا تصورت ما ترجوه من الاجتماع بجعفر وولديها هدأ روعها، ثم يعترضها ما تخافه من نقمة أخيها إذا علم بفرارها على تلك الصورة، وربما حمله غضبه على تجريد الجيوش في طلبها، فكادت هذه الهواجس تثني من عزمها وهي تغالب عواطفها وتمني نفسها بالنجاة. وبينما هي في تلك الخواطر إذ تذكرت خادما لها كان أمينا على سرها في أثناء مخاوفها حتى جعلته رئيس الخدم في قصرها، واسمه «أرجوان»، وكانت تستأنس به في إبان اضطرابها وقلقها، فرأت أن تصطحبه في فرارها، فنادت عتبة وكانت منهمكة في إعداد المعدات فأتت والغبار يعلوها والانهماك ظاهر عليها، فقالت لها العباسة: «أين أرجوان؟»
فقالت عتبة: «هو هنا في القصر. هل أدعوه؟»
قالت العباسة: «ادعيه؛ فإني أرى أن نصحبه معنا.»
فخرجت عتبة، ثم عادت ومعها أرجوان. وكان أسود اللون أصله من بلاد البربر في شمال أفريقيا، وقد ربي في قصر المنصور، وكان مقربا له؛ لأن أم المنصور بربرية، وكان طويل القامة، وأكثر طوله في ساقيه على طبيعة الخصيان. وهو يومئذ في نحو الخمسين من عمره. ولولا قلة الشعر في وجهه من نتائج الخصي لظهرت شيبته وبانت كهولته، ولكن هؤلاء الخصيان قلما تعرف حقيقة عمرهم بمجرد النظر إليهم. وكان أرجوان قد ربى العباسة منذ طفولتها وأخلص الخدمة لها، وهي قد تعودته وأحسنت الثقة به. فلما استقدمته في ذلك اليوم وقف بين يديها، فنظرت إليه والدمع في عينيها، فلما رآها تبكي بكى معها وقال بصوته المؤنس ولحنه الأعجمي: «ما الذي تأمرين به يا مولاتي؟»
Shafi da ba'a sani ba