فظل مسرور واقفا، فعلم الرشيد أنه يريد أن يتكلم، فقال: «ما بالك لا تذهب؟»
قال: «لا أدري أين أجد إبراهيم الآن، وأمير المؤمنين قد أذن له أن يختلي بأهله يوما في الأسبوع لا يطلبه فيه. وهذا هو اليوم.»
فقال: «أحضره حيثما كان ولا تراجعني.»
فلم يسعه إلا الطاعة فخرج. وصفق الرشيد فجاءه أحد الغلمان فقال: «إلي بصاحب الملبس.» وهو الذي يلبس الخليفة ثيابه، فأتى، فقال له: «إني عازم على مجلس منادمة فألبسني ثيابها.» فخرج ثم عاد ومعه عدة وصفاء يحملون تلك الثياب؛ وهي غلالة وشي منسوجة بالذهب، وعمامة صغيرة موشاة، وإزار رشيدي عريض العلم مضرج. تلك كانت ملابسه الصيفية في مثل هذا المجلس. وجاء غلمان آخرون في أيديهم المباخر فيها العود والند، وفي أيدي آخرين جامات الطيب. فبدأ صاحب الملابس بنزع ما على العمامة من الحلي حتى حل العمامة وأخذ البردة والجبة، ثم ألبسه الغلالة وعممه وناوله الإزار فاتشح به. فلما فرغ من لبسه خرج من باب في الإيوان يؤدي إلى دار النساء، وما زال ينتقل من رواق إلى آخر، ومن دار إلى أخرى حتى دخل دارا مفروشة الصحن بالرخام، والحيطان موشاة بالوشي المنسوج بالذهب، ومنها إلى قاعة أرضها وحيطانها مرصعة بالوشي المذكور. وقد نصبوا له هناك سريرا من الصندل، وأرخوا في منتصف الغرفة ستارة من ذلك الوشي المطرز، عليها نقوش جميلة. وحول أرض الغرفة الوسائد من الوشي المطرز وليس عليها أحد؛ لأن الشعراء يجلسون في القسم الآخر من الغرفة وبينه وبينهم الستار.
فلما جلس هناك ووقف الغلمان بين يديه تذكر أنه جائع، ولم يتناول الطعام منذ الصباح، فأمر صاحب الطعام بأن يأتيه ببعض الأطعمة المستعجلة، فنصبوا له سماطا وأتوه أولا بالمرق من السكباج تنشيطا لجسمه، ثم جاءوا بالبقول المطبوخ، ثم الدجاج فالشواء من الحمام أو الدراج، فأنواع السمك وبعض ما يطبخ بالتوابل من اللحم والبقول، ثم قدموا له رقاقا من السنبوسج المحشية باللحم والدهن، عليها التوابل من الفلفل والزنجبيل، ثم الحلوى من الفالوذج واللوزينج. وأخيرا النقل للتعلل بعد الطعام. وكان يأكل وخاطره قلق حتى إذا فرغ من الطعام سمع عودا يضرب ضربا مطربا على نغم لم يسمعه من قبل.
فأصاخ بسمعه فأطربه ذلك الصوت، وعلم أنه آت من الرواق وبينه وبين ذلك المكان ستارا، فشعر بذهاب الانقباض عن صدره شيئا فشيئا، وهو يعجب لذلك النغم الغريب. وقد أدرك من نعومته أنه صوت جارية فصاح: «من يغنينا في الرواق؟ جزاه الله خيرا»
فسمع الجواب من وراء الستار: «هي قرنفلة وصوتها مثل رائحتها.» فعلم الرشيد أن الذي يخاطبه حسين الخليع، فصاح فيه: «قبحك الله. وأي قرنفلة؟»
فقال: «هي جارية أرسلها مولانا ولي العهد هدية لأمير المؤمنين في هذا الصباح. غني يا قرنفلة. إن الخليفة طرب لصوتك، فيا لسعادتك! ويا ليتني كنت مكانك فيغنيني ذلك عن اللطم والصفع على الأقل!»
فلما سمع الخليفة مجونه ضحك، وضحك سائر السامعين إلا حسينا المذكور، فإنه استأنف الكلام قائلا: «هذا هو حظي بقربي من الخلفاء ؛ أنا أبكي وهم يضحكون، فعسى أن يسعدني الحظ وأصير قرنفلة أو وردة يشمني الناس ويسمعون صوتي، أو يرفقون بجلدي، ولكنني أخاف - لإدبار سعدي -
بي، وأصير أنا إلى ظلمة الأحشاء، وبئس الظلمة. غني يا قرنفلة غني. أطلب من الله أن يبقيني على ما أنا عليه، وقد قيل: نحس تعرفه ولا سعد تتعرف به.»
Shafi da ba'a sani ba