وأي محنة!
ددف الجميل العزيز الذي احتضنه طفلا رضيعا، فأنقذه من الجوع والفقر، ورعاه بعين الأبوة الرحيمة حابيا وصبيا، وغلاما يافعا، ورباه تربية أبناء النبلاء ومهد له سبيل النجاح، فكان رجلا يزن أمة من الرجال، ومنحه عطف الأب وقلبه. وتقبل منه محبة الابن وبره، ددف العزيز الجميل تظهره الأقدار على حقيقته فإذا به عدو لفرعون! إذا به الوسيلة التي ادخرها الرب رع لقلقلة العرش المكين وطعن ربه الجليل، وسلب حق ولي عهده النبيل، وتأبى الأقدار إلا أن تطلعه - وهو خادم فرعون الأمين - على هذه الحقائق الهائلة في ساعة من ساعات القضاء التي يدبرها من وراء الغيب، ويلبسها هيئة المصادفات. فأي محنة، وأي ابتلاء!
وصاح بشارو مرة أخرى يحدث نفسه قائلا: بشارو! أيها الشيخ البائس ... إن الآلهة تبتليك بمحنة شديدة.
واشتد الكرب بالرجل، وثقل على صدره القلق، فمضى يحدث نفسه بحزن وألم قائلا: ددف أيها العزيز، لتكن ابن العامل الشهيد أو وريث كاهن رع الأعظم، فلحقا أني أحبك حبي خنى ونافا، وأنك لم تعرف أبا سواي ...
ولهذا منحتك اسمي رحمة ومحبة. والله إنك لشاب يفيض الإخلاص من طبعه فيض الشعاع من الشمس، ولكن يا أسفا لقد ادخرتك الآلهة، وأنت الأمين لأكبر خيانة عرفها التاريخ، خيانة رب العرش المكين، خيانة عهد خوفو مولانا العظيم، خوفو الذي نعلم أبناءنا التسبيح باسمه قبل أن نلقنهم حروف الهجاء. واها أيتها الأقدار! لماذا تلتذين بتعذيبنا؟ لماذا ترمينا بالمحن والويلات في أوقات سعودنا؟ وماذا كان يضيرك لو ختمت حياتي كما بدأت هنية سعيدة راضية؟!
وازدادت حالته سوءا وأحس بدنو أجله، فدلف إلى المرآة وألقى نظرة على وجهه الحزين الأسيف، وقال يخاطب صورته: بشارو! ... أيها الرجل الذي لم يؤذ إنسانا في حياته، هل يكون ددف العزيز أول ضحية تمتد لها يدك بالأذى؟ ... يا للعجب! ولماذا كل هذا العذاب؟ لماذا لا تطبق شفتيك وكأنك لم تسمع شيئا؟ لماذا؟ رباه. إن الجواب حاضر. إن قلبك لا يستريح لأنه قلب بشارو مفتش الأهرام وخادم الملك، بشارو الذي يعبد واجبه عبادة. هنا الداء. أنت تؤمن بالواجب. حقا أنت لم تؤذ إنسانا، ولكنك لم تحد عن الواجب قط ... والآن أيهما أولى بالاتباع؟ ... الواجب أم تجنب الأذى؟ يستطيع أي تلميذ في مدرسة منف الأولية أن يبتده الجواب ابتداها، ولكن من منهم يشعر بمحنته؟ فبعدا للضعف والخور. إن بشارو لن يختم حياته بالخيانة، كلا لن يبيع مولاه ... فرعون أولا ... وددف ثانيا ... وتنهد من قلب محزون أليم، ونفس طعنتها الحسرة بخنجر مسموم ... وأبعد عن مخيلته أطياف ددف وزايا وأخذ يرتدي ثيابه الرسمية بعزم ثابت.
ثم غادر حجرته بخطوات ثقيلة وهبط إلى حديقة البيت، ومر في طريقه بحجرة الضيوف، ورأى ددف واقفا ببابها يدل مظهره على التأمل العميق والاهتمام، فخفق قلبه لرؤياه خفقانا غريبا، واضطرب كل شيء فيه، اضطربت نفسه وصدره وجفناه، وتحاشى النظر إلى عينيه، وأشفق من أن يحادثه فتنم لهجته على ثورة قلبه، ونظر الشاب إلى ثياب أبيه الرسمية نظرة غريبة، وسأله بصوت ضعيف: إلى أين أنت ذاهب الآن يا ... أبتي؟
فقال بشارو وهو يسرع في خطاه: إلى واجب لا يؤجل يا بني.
ثم ركب عربته وقال للسائق: إلى القصر الفرعوني.
وانطلقت العربة في طريقها، وكانت جيوش الليل تتجمع في الآفاق للانقضاض على النهار المحتضر الذي غاب عنه حارسه، فتأمل بشارو الجو بعينين حزينتين، ونفس منقبضة، وقلب مظلم كالليل الزاحف، وقال لنفسه وهو يتنهد آسفا محزونا: عرفت الواجب ذا مشقة ولذة، وها أنا أتجرعه مرا لا لذة فيه كالسم الزعاف.
Shafi da ba'a sani ba