وانتهت المعركة الفاصلة في ساعات قلائل، وباتت قرى القبائل تحت رحمة الجنود المحتلة، وامتلأ الميدان بجثث القتلى أو الجرحى من الفريقين، وانتشر الجند هنا وهناك بغير نظام، وأقبل الجنود المصريون يبحثون بين الجثث عن إخوانهم الأبطال الذين سقطوا في ميدان القتال، ومضوا يحملونهم إلى المعسكر خارج السور، وأخذ غيرهم يجمعون جثث العدو ليحصوها عدا، وجعل آخرون يقيدون الأسرى بالحبال، ويستولون على أسلحتهم، ويجمعونهم صفوفا صفوفا، ثم أخليت القرى الصغيرة من النساء والأطفال وأحضرن جماعات جماعات وهن يصرخن ويعولن إلى جانب الأسرى، وأحاط الحرس بالجميع من كل جانب، ثم عاد الجنود كل طائفة إلى حيث نشر علم فرقتها، ووقفوا صفوفا كل فرقة على رأسها ضباطها الذين نجوا من شر القتال.
وأتى القائد يتبعه قواد الفرق، فاستعرض الجيش المنتصر الذي أدى له التحية بحماس عظيم، وسلم على الضباط البواسل، وهنأهم بالفوز والنجاة، وحيا ذكرى من سقط منهم شهيدا، ثم سار مع أركان حربه إلى البقعة التي ألقيت فيها جثث الأعداء، وكانت الجثث ممددة بعضها إلى جانب البعض، وقد سالت دماؤها أنهارا، ووجد على حراستها ثلة من الجند على رأسها ضابط، فسأله ددف: كم عدد القتلى والجرحى؟
فأجاب الرجل: قتل من العدو ثلاثة آلاف رجل وجرح خمسة آلاف.
فسأله: وكم عدد ضحايانا؟
فقال: قتل منا ألف وجرح ثلاثة آلاف.
فاكفهر وجه الشاب وقال: كلفتنا قبائل البدو غاليا.
وسار القائد إلى حيث يوجد الأسرى، وكانوا جمعا غفيرا تنتظمه الحبال الطويلة جماعات، وتقيد أذرعهم إلى الخلف، وقد نكست رءوسهم حتى مست لحاهم صدورهم، وألقى ددف نظرة عليهم، وقال لمن حوله: سوف تهلل مناجم قفط - التي تشكو قحطا في عمالها - فرحا بهؤلاء الرجال الأشداء.
انتقل ومن معه إلى منطقة صاخبة مولولة هي منطقة السبايا اللاتي لم يستطعن هروبا، وكانت أطفالهن تصرخ وتعول، وكن يلطمن وجوههن ويندبن حظهن ورجالهن القتلى أو الجرحى أو الأسرى أو المشردين، ولم يكن ددف يعلم بلغتهن فألقى عليهن نظرة غريبة لم تخل من إشفاق، ووقع بصره على طائفة منهن تبدو عليها آي النعيم، فسأل الضابط الذي يشرف على حراستهن: من هؤلاء النسوة؟
فقال الضابط: هن حريم زعيم القبائل.
وتأملهن القائد وعلى فمه ابتسامة، وكن ينظرن إليه بأعين جامدة لا شك تخفي خلفها نارا مضطرمة يوددن لو يسلطنها على القائد الظافر الذي أسر سيدهن، واستذلهن وسامهن من بعد عزة هوانا.
Shafi da ba'a sani ba