كان ددف يصغي إلى مدرسه بوعيه الكامل، ويتلذذ بأمثاله وقصصه ويتأثر بقوله غاية التأثر. وأمضى في تعليمه الأولي سبع سنوات أتم فيها مبادئ العلوم وأتقن الكتابة والقراءة.
وفي أثناء تلك الفترة توثقت أواصر الود بينه وبين أخيه نافا، فكان يجلس إلى جانبه وهو يرسم أو يصور، يتتبع بعينيه الفاتنتين هاتيك الخطوط التي يخلق تلاحمها أجمل الأشكال وأبدع المعاني. على أن نافا كان يملك قلبه بضحكه الذي لا ينقطع، وبروحه المرحة وبنكاته اللطيفة.
وكان لخنى أثر بين في عقله، جعل علمه الناشئ يجاوز المبادئ ويتصل بالإلهيات والعلوم العالية في تلك السن المبكرة؛ وذلك أن خنى كان يعجبه خط ددف، فكان يملي عليه مذكراته ومحاضراته فأضاء عقله الصغير قبس من نور قاقمنا، ووحي من كتاب الموتى، ونفثات من أشعار تايا، وكانت تنساب إلى عقله في لطف، ولكن في هالات من الغموض والإبهام أيقظته من سباته وبثت فيه القلق والحيرة والحياة.
وقد أحب خنى أيضا - رغم رزانته وتجهمه - وكان إذا شبع جريا ولعبا هو وجاموركا أوى إلى حجرته ليكتب له محاضراته أو ليقلب في الكتب المحلاة بالصور، فتأمل من صغره صورة بتاح رب منف وصولجانه ذي العلامات الثلاث الدالة على القوة والحياة والخلود، وصورة العجل أبيس المقدس الذي تحل فيه روح بتاح المعبود، وكان يمطر خنى بالأسئلة فيجيبه الشاب عنها بصبر، ويروي له الأساطير، وما أعظم ما كانت تستولي عليه! ... كان يجلس القرفصاء مصغيا إلى أخيه وجاموركا أمامه يوليه وجهه، ويولي الأستاذ وأساطيره الدينية ظهره!
وانتهت تلك المرحلة السعيدة الممتعة، وأوفى منها ددف على الغاية وأكثر، بل فاق عقله عمره؛ فكان مثله مثل شجرة الورد التي تنبت الزهر الجميل، ولم تعل عن الأرض أشبارا.
10
واها! إن الزمان يتقدم غير ملتفت إلى الوراء، وينزل - كلما تقدم - قضاءه بالخلائق، وينفذ فيها مشيئته التي تهوى التغيير والتبديل، لأنه ملهاته الوحيدة التي يستعين بها على ملل الخلود، فمنها ما يبلى ومنها ما يتجدد، ومنها ما يموت ومنها ما يحيا، ومنها ما يبتسم شبابه، ومنها ما يرد إلى أرذل العمر، ومنها ما يهتف للجمال والعرفان، ومنها ما يتأوه لدبيب اليأس والفناء.
وقد فعل الزمان فعله بأسرة بشارو.
فقد بلغ الرجل الخمسين من عمره، ودب الترهل في بدانته، ووخط المشيب رأسه، وأخذ يودع شيئا فشيئا القوة والشباب والفتوة، وازداد جهازه العصبي حساسية، فكثر صياحه وصخبه وانتهاره الحراس وزجره الكتبة، ولكنه كان كالثور المصري عظيم الخوار عديم الأذى، لأن طبيعته تمسكت بصفتين لا تتنازل عنهما، ولا تخضع فيهما لحكم زمان؛ فخاره وطيبة قلبه؛ فهو مفتش عام هرم خوفو وويل لمن يخاطبه فلا يقرن باسمه وظيفته وألقابه، وهو لا يمل الحديث عن نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يسره حديث كحديث الملق والإطراء.
وكان إذا دعي إلى المثول بين يدي فرعون بحكم وظيفته، نشر الخبر في كل مكان تصل إليه دعايته، فيعلم به أهل بيته صغيرا وكبيرا، وأصحابه ومرءوسيه، ولا يكتفي بذلك فيقول لنافا وخنى وددف: «هلموا أذيعوا النبأ المجيد بين إخوانكم، وتنافسوا أيها الصغار لتبلغوا الذروة التي تسنمها أبوكم بالإخلاص، والعمل، والمواهب العالية.» ولكنه ظل كما كان الرجل الطيب الذي ينفر قلبه من الأذى، ولا يجاوز غضبه طرف اللسان.
Shafi da ba'a sani ba