(ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا) # وأما أقدار الألفاظ، وأقدار المعاني، فهو أن يأتي المعنى فيما يليق به من اللفظ، وقد مضى الكلام فيه بما أغنى عن إعادته، وأما مراتب القول، ومراتب المستمعين له. فهو حسن التلطف فيه، والإتيان به على تقدير وتمرين لسامعه، وحسن حيلة في إيراد ما يقبل عليه وتجنيبه ما ينكره، وألا يهجر منه عليه بما يغضبه، أو لا يحتمله قلبه، ولا يسعه صدره، ولا يليق به قبوله، ثم يزيده شيئا بعد شيء حتى يبلغ به أقصى مراده منه، فيكون في ذلك مثل المربي للصبي، فإنه متى هجم عليه بالغذاء من أول مرة قتله، ولكنه يسقيه اللبن ثم ينقله في الغذاء من حال لطيفة إلى ما هو فوقها حتى يكمل تربيته. أو كالطبيب الحاذق الذي إذا رأى العليل يكره الدواء ويمتنع من أخذه، لطف له واحتال في إقامة شيء مكان شيء، وخلط ما يستبشع طعمه بما يذهب ببشاعته، والتدبير لذلك حتى يسهل عليه أخذه، ويبلغ مراده من فقهه ولذلك بدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول النذارة بالدعاء إلى التوحيد بشهادة الإخلاص، فنظر ثم لم يزل يزيدهم فريضة بعد فريضة، وأمرا بعد أمر إلى أن أكمل لهم الدين، وانتهى في ذلك، ولو هجم به عليهم في أول وهلة لاستثقلوه ورفضوه، وخالفون ولم يقبلوه، فينبغي للعامل أن يكون بصيرا يترتب قوله، عالما بمراتب المستمعين له في قبوله، فلا يأتيهم منه بما ينافر طبائعهم، ويكون سببا إلى إعراضهم، ثم لا يزال يلطف لهم في ذلك ويرقيهم في حال إلى حال فيه، حتى يبلغ بهم مقصده، فإن ذلك # أصوب في الرأي، وأولى بالقبول.
Shafi 211