هذا آخر ما ألفته من فن الزجل، وأوردته على أئمته من المغاربة وأهل مصر والشام من العيوب التي نهوا عنها واستعملوها، وما أوردته من المحاسن البديعة للفريقين، وقد سميته بلوغ الأمل في فن الزجل، ولعمري إن التسمية هنا تطابق المسمى، فإن الطالب لم يبلغ أمله من غير هذا الكتاب، ولو طلب هذه المحاسن والفوائد من غيره توارث عنه بالحجاب أقولها لو بلغت ما عسى، والطبل لا تضرب تحت الكسا، والمسؤول من الله الذي نرجو مراحمه أن يمن بحسن الخاتمة، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
قلت: تقدم وتقرر أن الفنون سبعة لا خلاف في عددها بين أهل هذه البلاد، فالشعر قد شعر الناس بإعرابه وإعراب ما أضيف إليه من فن الموشح والدوبيت، وقد تقدم أيضًا قولي في الفرق بين الموشح والزجل، وهذه الفنون الأربعة وهي الزجل، والمواليا، وكان وكان، والقوما ما للعربيات في مدائن لحنها مجال، ولما قالت سهولتها بتحريم الإعراب قال الناس: هذا هو السحر الحلال، تجذب للمتأدب طبعها بسهولة مجونها إلى الخلاعة، وإن لم يلق المبلغ على تدبير مصطلحها جابر كان أجنبيًا من الصناعة. والزجل أعلاها رتبة. وتقدم قولي: إن أوزانه ما انحصرت عددًا وسبله متشعبة فهي تتلو الطرائق قددًا.
وقد عن أن أنظم شمل الزجل بإتباعه من الفنون الثلاثة وهي: المواليا وكان وكان، والقوما. وصار في الخاطر إلى ذلك انبعاث، وهذه الفنون تختلف بحسب اختلاف المخترعين واختلاف البلاد وتفاوت الاصطلاح، فمنها وزن واحد وأربع قواف وهي المواليا، وسموه البرزخ لأنه يحتمل الإعراب واللحن، وإنما اللحن أحسن وأليق، وإنما كان يحتمل الإعراب في أوائل استخراجه لأن أهل واسط اخترعوه من البحر البسيط وجعلوا كل بيتين منه أربعة أقفال بقافية واحدة وتغزلوا به ومدحوا وهجوا والجميع معرب، إلى أن وصل إلى البغاددة فزادوه باللحن سهولة وعذوبة، وما قصد بقولهم: إنه يحتمل الإعراب واللحن، أن يكون بعض ألفاظ البيت معربة وبعضها ملحونة، فإن هذا عندهم من أقبح العيوب التي لا تجوز عندهم البتة، وهو التزنيم في الزجل، فإنما المقصود أن يكون المعرب منه نوعًا بمفرده ويكون منه ملحونًا باصطلاح المتأخرين لا يدخله الإعراب، كقول القائل:
أعبر على الباب قالت من لغيري دون ... أيا سمير السرى خلف المعنى كون
هيا تربع تدحرج دا ندفف جون ... نما إذا كان لنا حاجة بذلي بون
الفن الثالث
الكان وكان
وله وزن واحد وقافية واحدة، ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني، ولا تكون قافيته إلا مردوفة قبل حرف الروي بأحد حروف العلة، ومخترعوه البغداديون، ثم تداوله الناس في البلاد. وسمي بذلك لأنه أول ما اخترعوه لم ينظموا فيه غير الحكايات والخرافات والمنصوبات فكان قائله يحكي ما كان وكان، إلى أن كثر واتسع طريق النظم فيه، فنظموا فيه المواعظ والرقايق والزهديات والمواعظ فيه أكثر منها ابن الجوزي نور الله ضريحه وحلت بهذا الألباب ولكن البغاددة لم يقصدوا غير تسيير الأمثال وكثرة المماجنة والخلاعة، فمن ذلك قول القائل منه:
لنا بغمز الحواجب ... كلام تفسيرو منو
وأم الأخرس تعرف ... بلغوة الخرسان
لا شي بلاشي تأخذ ... إن لم تقدم تقدمه
فازرع إذا ردت تحصد ... غدا يجي نيسان
إن كنت تعشق وتفزع ... من لا يجي ليلة غدا
ما في شروط المحبة ... عاشق يكون فزعان
لقمة من القدر تكفي ... لمن يشم الرايحة
ونصف لقمة تتخم ... لمن يكو شبعان
قبل كفوف أضدادك ... حتى يلوح لك قطعها
فإن ظفرت فقطع ... عروقها بأمان
كم يصبر التاج حتى ... يعلو على راس الملك
من حر ضرب المطارق ... والكور والسندان
وما ملك مصر يوسف ... حتى سجن وسقي غصص
من أخوتو وزليخا ... والقيد والسجان
لا تفرحي يا جديدة ... ما حب حدّ ما حبني
1 / 22