البحور الزاخرة في علوم الآخرة
تأليف
الإمام العالم العلامة محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني الحنبلي
رحمة الله تعالى عليه (١١١٤ هـ - ١١٨٨ هـ)
(يطبع لأول مرة على عدة نسخ خطية بخط المؤلف وخط حفيده)
حققه وضبط نصه وعزا آياته وخرج أحاديثه ووثق نقوله وعلق عليه
عبد العزيز أحمد بن محمد بن حمود المشيقح
غفر الله له ولوالديه ولذريته ولمشائخه ولجميع المسلمين
Shafi da ba'a sani ba
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
مُقَدِّمَة
إنَّ الحمدَ لله، نَحْمَدُه، ونستعينُه، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ به مِن شرور أنفسِنا، وَمِن سيئاتِ أعمالنا، مَنْ يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل، فلا هَادِيَ له، وأشْهَدُ أن لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (١)﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١]
وبعد
فإنَّ الإِيمان بالحياةِ الآخرة والعمل لها أصلٌ مِنْ أصول العقيدة الإسلامية، ولكن كثيرًا مِنَ الناسِ قد انشغلوا في حياتهم، فرضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، ونسوا أو تناسوا الموت وسكراته، والقبر ووحشته، والبعث ورهبته، والحشر وروعته، والحساب ودقته، والصراط والعبور عليه، وإنها لجنةٌ أبدًا، أو نارٌ أبدًا، ذلك لأننا نعيش في عصر قد طغى فيه
مقدمة / 5
حب الدنيا على قلوب كثيرٍ من الناس، حتى تنافسوا على متاعها الزائل، ونسوا ما أمامهم من بعثٍ وجزاء، فكان لا بد من التذكير بهذِه الحياة الآخرة في وقت المسلمون أحوج ما يكونون إليه. ولقد كان الحديث عن الحياة الآخرة موضع اهتمام وعناية في القرآن الكريم، والسُّنة المطهرة.
ومن هذين المصدرين: الكتاب، والسنة: ألَّف العلماء مصنفات كثيرة عن الحياة الآخرة وجوانبها وغيرها مما يتصل بها، والمتأمل لما كتبه العلماء عن الحياة الآخرة قديمًا وحديثًا، يجد أن طريقتهم في التأليف متنوعة: فمنهم من يكتب عن قضية واحدة من قضايا الآخرة، ومنهم من يكتب في أكثر من قضية، ومنهم من استوفى أكثر أمور الآخرة في مصنف واحد.
نماذج من بعض المؤلفات عن الحياة الآخرة وما يتصل بها:
١ - التذكرة في أحوال الموتى والآخرة: للإمام القرطبي.
٢ - العاقبة: لعبد الحق الأشبيلي.
٣ - البعث والنشور: للإمام البيهقي.
٤ - البعث والنشور: لابن أبي داود.
٥ - البدور السافرة في أحوال الآخرة، شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور: للسيوطي.
٦ - إثبات عذاب القبر: للبيهقي.
٧ - أهوال القبور: لابن رجب.
٨ - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: لابن القيم.
٩ - التخويف من النار: لابن رجب.
١٠ - يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار لصديق بن حسن خان.
مقدمة / 6
١١ - التحرير المرسوخ في أحوال البرزخ. لابن طولون الصالحي ت: ٩٥٣.
١٢ - التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة: للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري.
ما يتعلق بكتب الفتن وأشراط الساعة:
١ - عبد الرحمن بن مهدي (ت ١٩٨ هـ) له كتاب السنة والفتنة.
٢ - نعيم بن حماد المروزي - أبو عبد الله الخزاعي ت (٢٢٢) له كتاب الفتن؛ له بعض النسخ موجودة في جامعة أم القرى بمكة مكتبة مركز البحث العلمي قسم المخطوطات، ط. بتحقيق سمير بن أمين الزهري. وله ط أخرى بتحقيق سهيل زكار.
٣ - إسماعيل بن عيسى العطار (٢٣٢) له كتاب: الفتن.
٤ - عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (٢٣٥) له كتاب الفتن.
٥ - أخوه عثمان بن محمد بن أبي شيبة (٢٣٩) له كتاب الفتن.
٦ - حنبل بن إسحاق - ابن عم الإمام أحمد بن حنبل ت (٢٧٣) له كتاب الفتن.
٧ - أبو داود سليمان بن الأشعث ت (٢٧٥) له كتاب الملاحم.
٨ - أبو الحسن أحمد بن جعفر - ابن المناوي ت (٣٣٦) له كتاب الملاحم.
٩ - محمد بن الحسين الآجري ت (٣٦٠) له كتاب الفتن انظر الشريعة له ص ٤٤.
١٠ - أبو محمد عبد الله بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ ت (٣٦٩).
مقدمة / 7
١١ - أبو الحسين علي بن محمد القابسي ت (٤٠٣) له المنبه للفطن من غوائل الفتن.
١٢ - عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي ت (٦٠٠) هـ له أشراط الساعة.
١٣ - عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر؛ ليوسف بن يحيى السلمي من علماء القرن السابع.
١٤ - أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي المعروف بابن كثير ت (٧٧٤) هـ.
١٥ - أبو عمرو بن عثمان بن سعد الداني ت (٤٤٤) هـ له كتاب الستن الواردة في الفتن.
١٦ - الفتن لمحمد بن فطيس بن واصل الغافقي الألبيري ت (٣١٩) هـ.
١٧ - جزء فيه فوائد في مسائل من قوله ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة" لأبي علي الجبائي ت (٤٩٨) هـ.
١٨ - الفتن لأبي محمد بن الوليد الطرطوشي ت (٥٢٠) هـ.
١٩ - أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي ت (٩٠٢) هـ القناعة فيما يحسن الإحاطة من أشراط الساعة وهو مطبوع.
٢٠ - الحصر والإشاعة في أشراط الساعة للسيوطي ت (٩١١) هـ.
٢١ - استطراد الظرفاء في شرح حديث الخلفاء أي الإثنا عشر لأحمد بن بابا التنبكي ت (١٠٣٦) هـ.
٢٢ - محمد بن عبد رب الرسول البرزنجي ت (١١٠٣) هـ الإشاعة
مقدمة / 8
لأشراط الساعة وهو يشتمل على أحاديث ضعيفة كثيرة وما لا يصلح الاستدلال به.
٢٣ - مجموع في أحاديث الهدى لأبي العلاء إدريس العراقي ت (١١٨٣) هـ.
٢٤ - النواب صديق حسن خان القنوجي ت (١٣٠٧) هـ له الأذاعة لما كان وما يكون بين أشراط الساعة، مختصر كتاب: البرزنجي وقد تجنب فيه مصنفه إيراد كثير من الضعيف والموضوع، مطبوع.
٢٥ - بهجة الناظرين للشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي ت (١٠٣٣) هـ.
٢٦ - تحقيق البرهان في إثبات حقيقة الميزان. له أيضًا.
٢٧ - أبو غنم الكوفي له كتاب الفتن باسم العرف الوردي في أخبار المهدي.
٢٨ - شرح حديث إنما بقاؤكم فيمن سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس لأبي عبد الله الطيب بن كيران الفاسي (١٢٢٧).
٢٩ - نصر بن عبد المنعم التنوخي له كتاب: مختصر في الملاحم والفتن له نسخة خطية.
٣٥ - أصح ما ورد في المهدي وعيسى لمحمد بن حبيب الله الجكني الشنقيطي (١٣٣٦). هـ
٣١ - الجواب المقنع المحرر في الرد على من طغى وتجبر بدعوى أنه عيسى أو المهدي المنتظر له أيضًا.
٣٢ - المفهوم والمنطوق مما ظهر من الغيوب التي نبأ بها الصادق المصدوق لمحمد بن عبد السلام السابح ت (١٣٤٨) هـ.
مقدمة / 9
٣٣ - أشراط الساعة وذهاب الأخيار وبقاء الأشرار لعبد الملك بن حبيب (٢٣٨).
ومن المعاصرين:
٣٤ - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ﵀ له رسالة في إثبات نزول عيسى بن مريم ﵇ في آخر الزمان، وغيرها من الكتب النافعة والمفيدة.
٣٥ - الشيخ حمود بن عبد الله التويجري ﵀، إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن، والملاحم وأشراط الساعة.
٣٦ - الشيخ عبد الله بن جار الله الجار الله ﵀: إتحاف أهل الإِيمان بما يعصم من فتن هذا الزمان.
٣٧ - الشيخ عبد الله بن سليمان المشعلي له مجموع أخبار آخر الزمان وأسرار الساعة وما سيجري منه من الفتن والحروب.
حياة المؤلف وعصره
الحالة السياسية:
عاش السفاريني ﵀ في القرن الثاني عشر في بلاد الشام، في الفترة ما بين (١١١٤ هـ-١١٨٨ هـ)، وكانت بلاد الشام لا تزال تحت الحكم العثماني، وإذا نظرنا إلى الدولة العثمانية في هذا العصر، نجدها أصبحت ضعيفة من بعد قوتها (... فقد تألبت عليها دول أوربا في هذا القرن، حتى انتزعت منها كثير من ممتلكاتها في أوربا، وكان سلاطينها من الضعف بمكان، فلم يكن لهم شيء من الأمر في الدولة، وإنما كان الأمر لوزرائهم، وكان أكثر هؤلاء الوزراء جهلاء؛ لا يعرفون شيئًا من أحوال
مقدمة / 10
السياسة الدولية في هذا القرن، ولا يعرفون ما يجري حولهم، ولا يأخذون بشيء من الإصلاح والتجديد بل يجمدون على ما ألفوه ...) (١).
وإذا أردنا أن نتعرف على حكم الشيخ السفاريني من حكام عصره، ولا شك أن السفاريني قد نشأ وتربى في هذا الجو السياسي والظروف القاسية قد عانى منها وأحس بوطئتها على من حوله. ولذا فإنه عندما اكتملت رجولته ووصل إلى درجة التأثير (نراه محاربًا للظلم والطغيان، صادعًا بكلمة الحق، لا يماري فيه، ولا يهاب أحدًا، والجميع من أعيان بلده وأمرائه يهابونه، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر) (٢).
الحالة الدينية:
كان العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر يعاني من الجمود والانحطاط وقد تسربت الأدواء إلى الأخلاق والمجتمعات، وقبل المسلمون كثيرًا من العادات والشعائر والتقاليد الأعجمية غير الإسلامية.
فقد انتشرت غربة الإسلام بينهم، وعفت آثار الدين لديهم، وانهدمت ملة الحنفية، وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية، وانطمست أعلام الشريعة في ذلك الزمان، وغلب الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن .. فقد خلعوا ربقة التوحيد والدين، وجدوا واجتهدوا في الاستغاثة والتعلق على غير الله من الأولياء والصالحين والأوثان، وعلماؤهم ورؤساؤهم على ذلك مقبلون (٣).
_________
(١) أنظر: كتاب المجددون للصعيدي ص ٤١٦.
(٢) النعت الأكمل: ص ٣٥٢.
(٣) الدرر السنية في الأجوبة النجدية ١/ ١٨٦.
مقدمة / 11
وفي خضم هذا الفساد الاعتقادي، والابتعاد عن كتاب الله، وسنة النبي ﷺ الذي ساد العالم في القرن الثاني عشر، قيض الله له من يصحح لهذِه الأمة عقيدتها وسلوكها، ومن يبين هؤلاء الذين حملوا لواء الإصلاح الشيخ محمد السفاريني في بلاد الشام، ومن أبرز مظاهر تغييره للأوضاع الاعتقادية السائدة تأليفه في العقيدة السلفية، ومنها كتابه (لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية).
الحالة العلمية:
كان هذا العصر من الناحية العلمية يغلب عليه الجمود وعدم الابتكار، ويعلل بعض المؤرخين سبب هذا الانحطاط إلى الحكم الاستبدادي، والضرائب الفادحة، والتدهور الاقتصادي، والانهيار الاجتماعي، وهذِه الأمور لا تغري بالابتكار الشخصي في العلوم، فعصر الجمع والتعليق والاختصار والتقليد الذي بدأ قبل ذلك بقرون عديدة، واستمر في هذِه الأثناء، ولكن النتائج التي أعطاها كانت أقل وأضعف.
ويصف الشيخ السفاريني الحالة العلمية التي عاشها في معرض حديثه عن إقدامه على شرح (ثلاثيات مسند الإمام أحمد) بعد تردد طويل، - بعد أن استقر رأيه على كتابة شرحه القيم - (... ولم يبق من آثار هذا البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس ككان وكان، والعلم قد أفلت شموسه، ونقوضت محافله ودروسه، وربعه المأهول أمسى خاليًا، وواديه المأنوس أضحى موحشًا داويًا، وغصنه الرطيب غدا ذاويا، وبرده القشيب صار باليا. فالعالم الآن قلت مضاربه، وضاقت مطالبه، وعالت معاطيه، وسددت مذاهبه، فليس له في هذا الزمان ومنذ أزمان
مقدمة / 12
إلا الألتجاء إلى عالم السر والإعلان ...) (١).
فالحاصل: أن السمة البارزة للحياة العلمية في هذا العصر من حيث التأليف قد كانت عبارة عن الاختصار والنقل والتعليق والشرح والجمع وتكرار ما قاله السابقون، مع بعض الإضافات العلمية من ترجيح وتصويب خطأ، ونحو ذلك، ونجد هذِه السمة واضحة في مؤلفات الشيخ السفاريني مواكبة منه لروح العصر العلمية، وتأثرًا بالسائد فيه.
ترجمة المُصَنِّف من كتاب "السحب الوابلة"
هو العلامة مُحمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السَّفَّارِيني أبو العون، أو أبو عبد الله (١١١٤ - ١١٨٩ هـ) (٢).
قلتُ: وترجمه العلامة محمد بن عبد الله بن حميد النجدي (ت ١٢٩٥) فقال في "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" (٣):
مُحَمَّدُ بن أَحْمَدَ بن سَالِم بن سُلَيْمَان السَّفَّارِينيُّ، أَبُو العَوْنِ كَمَا قَالَهُ تِلْمِيذُهُ الكَمَال الغَزِّيِّ، مُفْتِي الشَّافِعِيَّة بِدِمَشق، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ -عَلى مَا قَالَهُ تِلْمِيذُهُ العَلَّامَةُ البَارعُ السَّيِّدُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الحَنَفِيُّ فِي "شَرْحِ
_________
(١) انظر: شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد ١/ ٤.
(٢) أخبارُه في "النعت الأكمل": (٣٠١)، و"مُختصر طبقات الحنابلة": (١٢٧)، و"التسهيل": (٢/ ١٨١). ويُنظر: "مُعجم الزَّبيدي (غير مرقم)، و"سِلك الدُّرر": (٤/ ٣١)، و"تاريخ الجبرتي": (١/ ٤٠٩)، و"فهرس الفهارس": (٢/ ١٠٠٢)، و"الأعلام": (٦/ ١٤)، و"مُعجم المؤلِّفين": (٥٩١)، "المُستدرك"، وهو مترجم في "النَّقش اليَمَاني": (١٣٠)، و"ثَبَتِ عابدين": (٦٢)، و"مُعجم المطبوعات": (١٠٢٨) ..
(٣) السحب الوابلة ٢ - ٨٣٦ - ٨٤٦.
مقدمة / 13
القَامُوسِ" شَمْسُ الدِّينِ العَلَّامَة الفَهَّامَة، المُسْنِدُ، الحَافِظُ، المُتْقِنُ.
نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ شَيْخِ مَشَايِخِي الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بن سَلُّوم مَا نَصُّهُ: وُلدَ سَنَةَ ١١١٤ بِقَرْيَتِهِ سَفَّارِينَ، فَقَرَأَ القُرْآنَ صَغِيرًا وَحَفِظَهُ وَأَتْقَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَقَرَأَ العِلْمَ فِي الجَامِعِ الأُمَوِيِّ، عَلَى مَشَايخَ فُضَلاَءَ، وَأَئِمَّةٍ نبُلاَءَ، مَا بَيْنَ مَكِّيِّينَ، وَمَدَنِيِّين وَشَامِيِّينَ، وَمِصْرِيِّينَ، وَذَكَرَهُم فِي إِجَازَتهِ الكُبْرى لِلسَّيِّدِ مُحَمَّدٍ مُرْتَضَى.
فَمِنْهُم فِي الحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَالْفَرَائِضِ، وَالأَصْلَيْنِ: العَلَّامَةُ خَاتمَةُ المحقِّقِينَ شَيْخُ المَذْهَبِ فِي عَصرهِ وَمِصْرِهِ الشَّيْخُ عَبْدُ القَادِرِ التَّغْليُّ، وَالشَّيْخُ مُصْطَفَى بن عَبْدِ الحَقِّ اللَّبَدِيُّ، وَالشَّيْخُ عوَّاد بن عُبَيْدٍ الكوري، وَالشَّيْخُ طَهَ بن أَحْمَدَ اللَّبَدِيّ، وَالشيْخُ مُصْطَفَى بن الشَّيْخِ يُوسُف الكَرْمِيُّ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحِيم الكَرْمِيُّ، وَالْمُعَمَّرُ السَّيِّدُ هَاشِمٌ الحَنبَلِيُّونَ، وَفِي أَنْوَاعِ الفُنُونِ العَلَّامَةُ الفَهَّامَةُ الشَّيْخُ عَبْدُ الغَنِيِّ النَّابُلُسيُّ، صَاحِب البَدِيعِيَّاتِ المَشْهُورَةِ والتَّاليفِ الجَلِيلَةِ، وَالْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ المَنِينيُّ، وَشَيْخُ الطَّرِيقَةِ السَّيِّدُ مُصْطَفَى البَكْرِيُّ، وَالْعَلَّامَةُ حَامِدُ أَفَندِي مُفْتِي الشَّامِ، وَالْحَافِظُ مُحَمَّد حَيَاة السِّندِيُّ ثم المَدَنِيُّ، وَالْمُعَمَّرُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمنِ المُجَلِّدُ الحَنَفِيُّ، وَالمُلَّا إِلْيَاسُ الكُرْدِيُّ، وَالْعَلَّامَةُ إِسْمَاعِيل جَرَّاح العَجْلُونِيُّ، وَالْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الغَزِّيُّ مُفْتي الشَّافِعِيَّةِ، وَقَرِيبُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الغَزِّيُّ الذِي تَوَلَّى الإِفْتَاءَ بَعْدَهُ، وَالَشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ البَصْرَوِيُّ، وَالشَّيْخُ سُلْطَان المحاسِنِيُّ خَطِيبُ الجَامِعِ الأُمَوِيِّ وَغَيرُهُم، وَأَجَازُوهُ بِإِجَازَاتٍ مُطَوَّلَةٍ وَمُخْتَصَرَةٍ.
وَبَرَعَ فِي فُنُونِ العِلْمِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الأَمَانَةِ، وَالْفَقِهِ وَالدِّيَانَةِ وَالصِّيَانَةِ،
مقدمة / 14
وَفُنُونِ العِلْمِ، وَالصِّدْقِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ، وَالْخُلُقِ، وَالتَّعَبُّدِ، وَطُولِ الصَّمْتِ عَن مَّا لاَ يَعْني، وَكَانَ مَحْمُودَ السِّيرَةِ، نَافِذَ الكَلِمَةِ، رَفِيعَ المَنزِلَةِ عِندَ الخَاصِّ وَالْعَامِّ، سَخِيَّ النَّفْسِ، كَريمًا بِمَا يَمْلِكُ مُهَابًا، مُعَظَّمًا، عَلَيْهِ أَنْوَارُ العِلْمِ بَادِيَةً.
وَصَنَّفَ تَصَانِيفَ جَلِيلَةً فِي كُلِّ فَنٍّ، فِمِنْهَا:
"الْعَقِيدَةُ الفَرِيدَةُ" وَشَرْحُهَا الحَافِلُ، العَظِيمُ الفَوَائِدِ، الجَمُّ العَوَائِدِ، مُجَلَّدٌ ضَخْمٌ، شَرْحُ "فَضَائِلِ الأَعْمَالِ" لِلضِّيَاءِ المَقْدِسيِّ، "نَفَاثُ الصَّدْرِ المُكْمَدِ بِشَرْح ثُلاَثيَّاتِ المُسْنَدِ" وَعَدَدُهَا ٣٦٣، مُجَلَّدَانِ، "شَرْحُ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ" مُجَلَّدَانِ (١)، "شَرْحُ نُونِيَّةِ الصَّرْصَريِّ" فِي السِّيرَةِ مُجَلَّدَان، "الْمُلَحُ الغَرَامِيَّةِ شَرْحُ مَنظُومَةِ ابن فَرَحِ اللامِيَّة"، "شَرْحُ الدَّليلِ" في الفِقْهِ وَصَلَ فِيهِ إِلَى الحُدُودِ، "الْبُحُورُ الزَّاخِرَةُ فِي عُلُومِ الآخِرَةِ لا مُجَلَّدَانِ (٢)، "تَحْبِيرُ الوَفَا فِي سِيرَةِ المُصطَفَى"، "غِذَاءُ الأَلْبَابِ بِشَرْحِ مَنظومَةِ الآدَاب" مُجَلَّدَانِ أَوْدَعَ فِيهِ مِنْ غَرَائبِ الفَوَائِدِ مَا لاَ يُوجُدُ فِي كِتَابِ، "دَرَارِي الذَّخَائِرِ شَرْحُ مَنظُومَةِ الكَبَائِرِ"، "قَرْعُ السِّيَاطِ فِي هَمْعِ أَهْلِ اللِّوَاطِ"، "الْجَوَابُ المُحَرَّرُ فِي كَشْفِ حَالِ الخَضِرِ وَالاسْكَندَرِ"، و"تُحْفَةُ النُّسَّاكِ فِي فَضْلِ السِّوَاك"، "التَّحْقِيقُ في بُطْلاَنِ التَّلْفِيقِ" رَدَّ بِهَا جَوَازَ التَّلْفِيقِ فِي العِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا لِلشَّيْخِ مَرْعِي، "الدُّرُّ المَنثُورُ فِي فَضْلِ يَوْم عَاشُور المأْثُورِ"، "اللُّمْعَةُ في فَضْلِ يَوْمِ الجُمْعَةِ"، "الْقَوْلُ العَلِيُّ شَرْح أَثَرِ سَيِّدِنَا الإِمَامِ عَلِيٍّ"، "نتَائِج الأَفْكَارِ شَرْحُ حَدِيثِ سَيِّدِ الاسْتِغْفَارِ" أَوْدَعَ فِيهِ غَرَائِبَ، نَحْو سَبْعِ كَرَارِيسَ، رِسَالَةٌ فِي بَيَانُ كُفْرِ تَارِكِ الصَّلاَةِ، رِسَالَةٌ الوَسْوَاس، رِسَاَلةٌ في شَرْحِ حَدِيثِ الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، رِسَالَةٌ
_________
(١) يسر الله تحقيقه وإتمامه على خير.
(٢) وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
مقدمة / 15
فِي فَضْلِ الفَقِيرِ الصَّابرِ، "مُنتَخَبُ الزُّهْدِ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ"حَذَفَ مِنْهُ المُكَرَّرَ وَالأَسَاييدَ، "تَعْزِيَةُ اللَّبَيب" قَصَيدَةٌ فِي الخَصَائِصِ النَّبَوِيَّةِ.
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّحرِيرَاتِ وَالْفَتَاوى الحَدِيثيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، وَالأَجْوِبَةِ عَلَى المَسَائِلِ العَدِيدَةِ، وَالتَّرَاجِمِ لِبَعْضِ أَصْحَابِ المَذْهَبِ.
وبَالْجُمْلَةِ فَتَآلِيفُهُ نَافِعَةٌ مُّفِيدَةٌ مَقْبُولَةٌ، سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ وَانتَشَرَتْ في البُلْدَانِ؛ لأَنَّهُ كَانَ إِمَامًا مُّتْقِنًا، جَلِيلَ القَدْرِ، وَظَهَرَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ حَسَنَ التَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ؛ لَطِيفَ الإِشَارَةِ، بَلِيغَ العِبَارَةِ، حَسَنَ الجَمْعِ وَالتَّأْلِيفِ؛ لَطِيفَ التَّرْتِيبِ وَالتَّرْصِيفِ، زِينَةَ أهْلِ عَصْرِهِ، وَنَقَاوَةَ أَهْلِ مِصْرِهِ، صَوَّامًا، قَوَّامًا، وِرْدُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ سُتُّونَ رَكْعَةً، وَكَانَ مَتِينَ الدِّيَانَةِ؛ لاَ تَأْخُذُهُ في اللهِ لَوْمَةُ لاَئمٍ، مُحِبًّا لِلسَّلَفِ وَآثَارِهِمْ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا ذَكَرَهُمْ أَو ذُكِرُواْ عِندَهُ لَمْ يَمْلِكْ عَيْنَيْهِ مِنَ البُكَاءِ، وَتَخَرَّجَ بِهِ وَانتَفَعَ خَلْقٌ كَثيرٌ مِنَ النَّجْدِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ وَغَيرِهِمْ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ ٨، أو سَنَة ١١٨٩. - انتَهَى - (١).
قَال في "سلكِ الدررِ": بنابلس، ودفنَ بتربتهَا الشّماليةِ، ثم قالَ: وبالجملةِ فقد كانَ غُرة عصرهِ، وشامة مصره، ولم يظهرْ بعدهُ في بلادهِ، وكانَ يدعى للملمات، ويُقصد لتفريج المهمات (٢)، ذا رأيٍ صائبٍ، وفهمٍ ثاقبٍ، جسورًا على ردعِ الظالمينَ، وزجرِ المعتدينَ، إذا رأى مُنكَرًا أخذَتهُ رعدةٌ وعلاَ صوتهُ من شدةِ الحدةِ، وإذا سكنَ غيظهُ وبردَ قيظهُ يقطرُ رقةً ولطافةً، وحلاوةً وظرافةً، ولهُ البَاع الطويلُ في علمِ التاريخِ، وحفظَ وقائع الملوكِ والعلماءِ والأمراءِ والأدباءِ وما وقعَ في الأزمانِ السالفةِ، ويحفظُ من
_________
(١) أي انتهى كلام محمد بن سلوم شيخ ابن حميد النجدي صاحب السحب الوابلة، والكلام بعده استمرار لكلام ابن حميد النجدي.
(٢) هذه الأمور كلها من البدع والشركيات التي أمرنا بالابتعاد عنها والتحذير منها.
مقدمة / 16
أشعارِ العربِ العرباءِ، والمولدين شيئًا كثيرًا، وله شعرٌ لطيفٌ مِنه قوله:
من لي بأنْ أَنظر إلى خِشْفِ بليلٍ مُعْتَكِرْ
وأخُمُّهُ مِن غير شَفٍّ كَالضَّميرِ المُسْتَتِرْ
ومنه:
الصبرُ عِيلَ مِنَ القِلاَ ... وَالنَّفْسُ أَمْسَتْ فِي بَلاَ
وَالْجَفْنُ جَفَّ مِنَ البُكَا ... وَالْقَلْبُ فِي الشِّجْوِ غَلاَ
وَشَكَى اللِّسَانُ فَقَالَ فِي شـ ... كْوَاهُ لاَ حَوْلَ وَلاَ
وَمنه قوله:
أَحِبَّةَ قَلْي تَزْعُمُوا أنَّ حُبّكُمْ ... صَحِيحٌ فَإِنْ كُنتُمُ كَمَا تَزْعُمُواْ زُورُواْ
وَأَحْيُواْ فَتًى فَتَّ الغَرَامُ فُؤَادَهُ ... وَإِلَّا فَدَعْوى حُبِّكُمْ كُلَّهَا زُورُ
وذكرهُ تلميذهُ الكمالُ محمدُ العامريُّ الغزيُّ في كتابهِ "الورود الأنسيّ بترجمةِ الشيخِ عبدِ الغنِي النابلسيِّ" قال: وقد ترجمتهُ في معجمِي المسمَّى ب"إِتحاف ذوِي الرسُوخِ" وفي طبقاتِ الحنابلة المسماة بـ "النعتِ الأكملِ في ترجمةِ أصحابِ الإمامِ أحمدَ بن حنبل" بترجمةٍ طويلةٍ.
قلتُ: وأخبرني بعضُ العلماءِ الصلحاءِ النابلسيِّينَ أنهُ لما أرادَ الرحلةَ إلى دمشق أتى به والدهُ إلى الشيخِ زيدٍ المشهور في بلادِ نابلس المنتسبِ إلى الشيخ عبدِ القادرِ الجيلانيِّ ليدعوَ لهُ - وكانَ معتقدًا في تلكَ الجهاتِ - فلما أخبراهُ بمطلوبهمَا دعا له وأوصاهُ وقال لهُ: إذَا وصلتَ دمشق تجد في الجامعِ الأموي على يمينكَ منَ الباب الفلانِي شخصًا صفتهُ كيت وكيت فبلغه منِّي السلامَ قلْ لهُ: يقولُ لكَ أَخوكَ زيدٌ: ادعُ لي فحينَ وصلَ رأى الشَّخص وعرفه بالصفةِ، وقال لهُ ما وصى بهِ الشيخُ زيدٌ، فقال
مقدمة / 17
الشخص: الشيخُ زيدٌ لاحقني بتوصياتهِ في كلِّ بلدٍ أجيها، ودعا لهُ كثيرًا وبشرهُ بالفتوحِ العظيمِ، ومما ذكرهُ المترجمُ في إجازتهِ للسيدِ محمدٍ مُرتضى أن شيخهُ الشيخَ سلطان المحاسني وشى إليهِ بعضُ الوشاة بأني سئلتُ من أفضل الشيخُ المحاسنيُّ أو الشيخُ المنينيُّ؟ فزعمَ الواشي أني فضلتُ الشيخَ المنينيَّ عليهِ، فكتبَ لِي بهذِه الأبياتِ هِيَ:
لاَ تَزْدَرِي العُلَمَاءَ بِالأَشْعَارِ ... وَتَحُطَّ قَدْرَا مِن أُولِي المِقْدَار
أتَظُنُّ سَفَّارِينَ تُخْرِجُ عَالِمًا ... يُنشِي القَرِيضَ بِدِقَّةِ الأَنظَارِ
هَلَّا أَخَذْتَ عَلَى الشُّيُوخِ تَأَدُّبًا ... كَيْ تَرْتَقِي دَرَجَ العُلاَ بِفَخَّارِ
وَاللِّينُ مِنكَ لاحَ فِي مِرْآتِهِ ... لاَ زِلْتَ تَكْشِفُ مُشْكِلَ الأخْبَارِ
فأجبتهُ بقولي:
قُلْ لِلإِمَامِ مُهَذِّبِ الأَشْعَارِ ... مُنشِي القَرِيضَ وَمُسْنِدِ الأَخْبَارِ
تَفْدِيكَ نَفْسِي يَا أَرِيبَ زَمَانِنَا ... يَا ذَا الحِجَى يَا عَالِيَ المِقْدَارِ
مَنْ قَالَ عَنِّي يَا هُمَامُ بِأَنِّنِي ... أُزْرِي بِأَهْلِ الفَضْلِ وَالآثَارِ
عَجَبًا لِمَن أضْحَى فَرِيدًا فِي الوَرى ... يُصْغِي لِقَوْلِ مُفَنِّدٍ مَكَّارِ
مَقْصُودُهُ وَشْيُ الحَدِيثِ وَوَضْعُهُ ... فَقَبِلْتَهُ مِنْ غَيْرِ مَا إِنكَارِ
وَغُدَوْتُ مُفْتَخِرًا عَلَى صَبٍّ إِذَا ... جَنَّ الظَّلاَمُ بِكَامِنِ الأكْدَارِ
وَرَشَقْتَهُ بِسِهَامِ نَظْمٍ مُزْدَرٍ ... لِلنَّاسِ بِالتَّحْقِيرِ وَالإِصْغَارِ
هَبْ أَنَ سَفَّارين لم تخرج فتًى ... ذَا فِطْنَةٍ بِنتَائِجِ الأَفْكَارِ
أَيُبَاحُ عُجْبُ المَرْءِ يَا مَوْلاَيَ فِي ... شَرْع النَّبيِّ المُصْطَفَى المُخْتَارِ
لاَ زِلْتَ فِي أَوْجِ المَكَارِمِ رَاقيًا ... تُنشِي القَرِيضَ بِهَيْبَةٍ وَوَقَارِ
مَا حَرَّكَ الشَّوْقَ التَّلْيدَ صَبَابَة ... صَدْحُ الحَمَامِ وَنَغْمَةُ الهَزَّارِ
مقدمة / 18
فجاء واعتذرَ وظنَّ أني لم أقبل عذره، فجاءَ يومًا بابنه وقال لهُ: قمْ قبِّل يد عمك يسمح لأبيك عن ما بدر منهُ، فقلت: أنا أرجو منكَ السماحَ. فقالَ: سبحانَ اللهِ قد استجزتَ علماءَ الشامِ وأهملتني مع مزيدِ الصحبةِ، فطلبتُ منهُ إجازةً فاحتفلَ في إجازةٍ مطولةٍ، فاخترمتهُ المنيةُ قبلَ وصولِها إلينا، رحمهُ اللهُ تعالَى ورضي عنهُ. أ. هـ من السحب الوابلة.
التعريف بالكتاب
١ - عنوان الكتاب: إن أكثر النسخ الخطية التي وقفت عليها لهذا
الكتاب، تتفق على تسميه ب "البحور الزاخرة في علوم الآخرة"، وقد صرح بهذِه التسمية في خطبة الكتاب، كما نجد المؤلف يذكر في بعض كتبه هذا الكتاب بهذا الاسم، فنراه في "لوامع الأنوار" عندما ذكر سؤال الملكين في القبر، يقول: "وقد ذكرنا في كتابنا "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" ما لعله يشفي ويكفي (١). وعندما ذكر الدجال في "لوامع الأنوار" ذكره بهذا الاسم (٢). وفي "غذاء الألباب"؛ لما ذكر صفة النار، قال: "وقد ذكرنا من ذلك شافيًا وقسمًا وافيًا في كتابنا "البحور الزاخرة من علوم الآخرة" (٣). وعلى هذا جرى من ترجم للمؤلف، كالجبرتي (٤)، وابن حميد (٥)، والغزي (٦)، وغيرهم.
_________
(١) انظر: "لوامع الأنوار" ٢/ ٧.
(٢) المصدر السابق ٢/ ١١٣.
(٣) انظر: "عذاء الألباب" ١/ ٦٦.
(٤) انظر: "تاريخ الجبرتي" ١/ ٤٦٠.
(٥) انظر: "السحب الوابلة" وقد نقلنا كلامه.
(٦) انظر: "النعت الأكمل" ص ٣٠٢.
مقدمة / 19
٢ - توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف:
هناك أدلة كثيرة تؤكد صحة نسبة كتاب: "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" للشيخ السفاريني، وهي كالآتي:
أولًا: إن جميع نسخ الكتاب الخطية التي وقفت عليها تؤكد صحة نسبة هذا الكتاب للسفاريني، وإنه من تأليفه، وذلك مما كتب على ظهرها وفي أثنائها، وفي آخر ورقة منها.
ثانيًا: أن السفاريني يذكر كتابه هذا في بعض مؤلفاته، فنراه في كتابه "غذاء الألباب"، يصفه بقوله: هو كتاب جليل المقدار، اشتمل على الموت والبرزخ والمحشر والموقف والجنة والنار، وغير ذلك من أحوال الآخرة، وفيه نفائس العلوم وجواهر المنطوق والمفهوم درر فاخرة. ومن عيناه بـ "البحور الزاخرة". فإنه اسم يوافق مسماه، ولفظ يطابق معناه (١).
وذكره في كتابه: "شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد" في عدة مواضع، منها: أنه لما ذكر أحاديث الدجال، قال: وقد فصلت هذا وبينته مع الجمع بين الأحاديث المختلفة في ذلك في كتابي "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" (٢).
ويذكر في كتابه "لوامع الأنوار البهية" في مواضع مختلفة، منها: أنه لما تحدث عن فتنة القبر قال: وقد ذكرنا في كتابنا: "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" ما لعله يشفي يكفي (٣).
ثالثًا: أن الشيخ محمود الألوسي -صاحب "تفسير روح المعاني"-
_________
(١) انظر: "غذاء الألباب" ١/ ٦٦.
(٢) انظر: شرح ثلاثيات المسند ٢/ ٢٥٥.
(٣) انظر: "لوامع الأنوار" ٢/ ٧.
مقدمة / 20
ينقل من كتاب "البحور الزاخرة" وينسبه للشيخ السفاريني، ومن ذلك قوله أثناء ذكره الروايات الواردة في وصف الدابة التي تخرج في آخر الزمان، يقول: وقد تصدى السفاريني في كتابه "البحور الزاخرة" للجمع بين هذِه الروايات المتعارضة" (١).
وفي موضع آخر أثناء كلامه عن أشراط الساعة والرد على القائلين بتحديد وقت قيامها، يقول: نقله السفاريني في "البحور الزاخرة" (٢).
رابعًا: أن الشيخ صديق حسن خان، في كتابه "الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة" ينسب كتاب "البحور الزاخرة" إلى السفاريني (٣).
خامسًا: أن الشيخ نعمان بن محمود الألوسي يذكر في بعض مؤلفاته هذا الكتاب منسوبًا إلى الشيخ السفاريني، ومن ذلك قوله في كتابه "الآيات البينات": قال الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في كتابه "البحور الزاخرة في أحوال الآخرة" (٤).
٤ - تاريخ تأليف الكتاب:
جاء في آخر ورقة من المخطوطة التي كتبها المؤلف بقلمه ما نصه: "ووافق الفراغ من تبييضه نهار الخميس لثلاثة وأربعين ومائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام آمين آمين".
٥ - موضوعات الكتاب:
اشتمل الكتاب على خطبة الكتاب والمقدمة وخمسة كتب وخاتمة.
_________
(١) انظر: تفسير روح المعاني للألوسي ٢٠/ ٢٤.
(٢) المرجع السابق ٢٦/ ٣٥، وانظر أيضًا: ١٥/ ١٥٢، ٩/ ١٣٥.
(٣) انظر: الإذاعة ص ١٢١.
(٤) انظر: "الآيات البينات" ص ٢٥.
مقدمة / 21
خطبة الكتاب: وقد ذكر فيها المؤلف ﵀ أهمية الكتابة عن الحياة الآخرة، ودوافع التأليف، واستطرد فيها بذكر فصل في "مثالب الحسد" لخاطر خطر له.
مقدمة الكتاب: وهي في ذكر الموت وما يتعلق به، والكلام على الروح بالتفصيل، وجعلها في سبعة فصول وخاتمة.
الكتاب الأول: في البرزخ. وقد قسمه إلى أبواب، والأبواب إلى فصول، وضمن ذلك تنبيهات وفوائد، وقد ذكر في هذا الكتاب ما يتعلق بالقبر وساكنيه، فذكر أهوال القبور، وعذاب القبر ونعيمه، وأدلة ثبوته، وشبهات المنكرين له، والرد عليها، وذكر تلاقي الأرواح في البرزخ، ومحل الأرواح بعد خروجها من البدن، وعن زيارة القبور.
الكتاب الثاني: في أشراط الساعة. وجعله في ثلاثة أبواب. تحدث في الباب الأول عن أشراط الساعة التي مضت وانقضت. وفي الباب الثاني: تكلم عن أشراط الساعة الوسطى بأدلتها. وفي الباب الثالث: ذكر أشراط الساعة الكبرى، وختم هذا الكتاب بالكلام على نفختي الفزع والصعق، وأحوال الكون عند ذلك.
الكتاب الثالث: وهو خاص بالمحشر، وما يتعلق به، وقد ذكر في هذا الكتاب الحشر والنشر، والوقوف في المحشر، وأحوال الناس في ذلك، والحساب والصراط، والحوض والشفاعة، والرؤية، وغير ذلك من مشاهد القيامة بأدلتها وتفاصيلها.
الكتاب الرابع: في ذكر الجنة وصفاتها، وصفات أهلها، وأطال الكلام على ذلك بالتفصيل.
الكتاب الخامس: في ذكر النار وفي صفاتها، وصفات أهلها، وذكر
مقدمة / 22